ما كدت أضع قدمي في قطار حلوان، حتى استرعى انتباهي رجل جالس في آخر العربة، منهمك في مطالعة جريدة.
وتوقفت لحظة، وفي ثانية واحدة كان كل شيء أعرفه عن الرجل قد بدأ يبرق في ذاكرتي كالأنوار الخافتة البعيدة، وأمسك وعيي بخيول واهية تربطني بجزء قديم من حياتي، وراح يجذبها برفق، وفي كل جذبة كنت أستعيد يوما وأياما وسنوات غير قليلة قضيتها في مدرسة دمياط الثانوية، وأستعيد معها أحلام صباي، وسحرية دمياط تتقاذفها وتلهو بها، وأماني مراهقتي وهي تدفعني وحيدا، غريبا، في عالم البلدة الذي يكسوه ضباب شاعري يلف الناس والوحدة والسكون.
وتراجعت بي الأيام إلى مبنى المدرسة الكبير، وحوشها الواسع، وأطفال وشبان صغار يلهون فيه بطرابيشهم التي فقدت معظم خيوط أزرارها، وتثنت جدرانها، وتعود الأيام إلى الفصل الضيق، ومقعدي في أول الفصل، والحفني أفندي مصطفى مدرس الكيمياء يكاد يحتل كل ما بقي في الفصل من فراغ، بكرشه الضخم، ورقبته الغامضة المختفية وراء شحم كثير ينسدل من تحت فكه، ووجهه السمين ذي التجاعيد الغليظة، وسترته التي حال لونها، والتي كانت أصغر بكثير من جسده، وسرواله الذي يحشو فيه ساقيه المنتفختين حشوا فيبدو كشراب طويل، وكلماته البطيئة التي تفصلها فترات حزق طويلة وهو يشرح، حتى إذا ما أخذه الحماس، واستطرد مسرعا في شرحه تتلاحق أنفاسه لاهثة، ويمد يده يخرج منديله المنكوش يمسح به العرق الذي يقطر من حواف تجاعيده.
ومع أن تلاميذ الفصل كان لهم هدوء أهل دمياط، إلا أنهم ما كانوا يستطيعون أن يتمالكوا أنفسهم في حضرة الحفني أفندي، وكان المخضرمون الجالسون في أواخر المقاعد هم أحسن من يقلدونه، وأول من يضحكون عليه إذا أدار ظهره، والبادئين برش الحبر من ريشهم على سرواله حين يمر بين التخت، وهم الذين يلصقون له ذيول الورق الملون في سترته إذا ما هم بمغادرة الفصل، وما كان يكتشف ما حدث له عادة إلا في الحصة الثانية حين يدخل، وفي وجهه صرامة عسكرية، وعلى خدوده احمرار فاقع، وفمه لا ينطق بحرف، وإنما يزغر لنا كلنا، ونحن واجمون صامتون، ويختار أي تلميذ، وغالبا ما يكون من الجالسين في الصفوف الأمامية، ويلعن أباه، ثم يهدأ الحفني أفندي.
ومع ذلك كان يعاملنا كالرجال الكبار، وكثيرا ما كان يقطع الدرس، ويحدثنا عن متاعبه؛ فقد كان يقيم وحيدا في لوكاندة، وكانت عائلته في مصر، فيكلمنا عن الجزار الذي خدعه، وباع له رطل اللحم ثلاثة أرباعه عظام، وخادم اللوكاندة الذي أكل من الباقي قطعتين كبيرتين حين أرسله يشوي اللحمة، وكيف أصبح ذات مرة، فوجد حافظته قد اختفت، وفيها اثنان من الجنيهات.
ويحدثنا عن ابنه الذي يغوي البنات في مصر، والذي رسب ثلاث مرات في السنة الواحدة من أجل هوايته، وعن امرأته التي تأبى أن تسكن دمياط، والتي يرسل لها في أول كل شهر معظم ماهيته.
كنا نسمع منه هذا، ونضحك في بعض الأحيان، ونتظاهر بالحزن في بعضها، وهو لا يشاركنا في كليهما، وإنما كان وجهه يحفل بالاشمئزاز والاشمئناط كمن يعاني من مغص دائم.
وما كان الرجل يلقى تقديرا من أحد؛ فتلاميذه يعبثون به، وزملاؤه يسخرون منه، والناظر يتجهم في وجهه ويلذعه كلما رآه بالنقد، والمفتشون يكتبون عنه أزفت التقارير، بل لا يتورعون عن تجريحه أمامنا في الفصل.
وكنت من المجتهدين الجالسين في أول الصفوف، الذين تهدد اللعنة في أي وقت آباءهم.
وكنت أكره «الشرز» الواحد الذي يرتديه صيف شتاء، حتى كان يخيل إلي أن زغبه الخشن ينغرز في جسدي أنا، وكنت أكره رباط عنقه الذي يلقيه على ناحية نائية من ياقته، وأكره أصابعه الملفوفة القصيرة، وهو يهرش بها كرشه المنبعج، وأكره أسنانه الصفراء بغير دخان، ومنديله المتكرمش المتسخ حين يخرجه من جيبه ويدعك به أسنانه في وسط المعادلة التي يشرحها، ثم يعيد المنديل، ويستأنف الدرس، وكأن شيئا لم يحدث.
نامعلوم صفحہ