وقطع الباقي من الواسعة في استسلام، وقد رأى أن يقضي ليلته كما اعتاد قضاء البارد من لياليه.
وأخيرا استقر في وسط داره، وقد أغلق الباب بالضبة وراءه، وتخطى أولاده وهو يزحف في الظلام على قبوة الفرن حيث يتناثرون، ومصمص بشفتيه وهو يئن منهم ومن الظلام، ويعتب بينه وبين نفسه على الذي رزقه بستة بطون تأكل الطوب.
وكان يعرف طريقه، فطالما علمته ليالي البرد الطريق، وعثر آخر الأمر على امرأته، ولم يزغدها، وإنما أخذ يطقطق لها أصابع يديها، ويدعك قدميها اللتين عليهما التراب بالقنطار، ويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة المقشعرة في جسدها.
وصحت المرأة على آخر لعنة أصابت طنطاوي في ليلته، وسألته في غير لهفة وفمها يملؤه التثاؤب عما جناه الرجل، حتى يسبه في عز الليل.
فقال وهو ينضو ثيابه، ويستعد لما سيكون: هه، الله يخرب بيت اللي كان السبب. •••
بعد شهور كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هو يعزي نفسه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر.
وبعد شهور وسنوات كان عبد الكريم لا يزال يتعثر في جيش النمل من الصغار الذين يزحمون طريقه في ذهابه وأوبته، وكان لا يزال يتساءل كل ليلة أيضا، ويداه خلف ظهره، وأنفه يشمشم حوله عن الفتحة التي في الأرض أو السماء، والتي منها يجيئون.
نظرة
كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا؛ ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط.
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوي الصينية، فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا، فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان، نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا؛ حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
نامعلوم صفحہ