آرام دمشق اور اسرائیل
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
اصناف
6
وتطلعنا المخطوطات على أن جالية جزيرة الفيلة هذه قد بنت هيكلا لإلهها الرئيسي المدعو ياهو (= يهوه)، وذلك منذ بدايات استقرارها في الجزيرة. وعندما تهدم الهيكل قام رئيس الجماعة جيدانية بالكتابة إلى الحاكم الفارسي لمنطقة اليهودية طالبا عونه المادي على بناء هيكل ياهو، الذي اعتبره نظيرا لهيكل زربابل في أورشليم، كما كتب حول الموضوع نفسه إلى حاكم منطقة السامرة. وهناك رسائل أخرى بعث بها جيدانية هذا إلى كهنة أورشليم يستعلم منهم عن بعض القضايا الشعائرية والسنن الدينية. الأمر الذي يدل بوضوح على أن جماعة جزيرة الفيلة كانت ترى في معتقدها وطقوسها استمرارا طبيعيا للمعتقدات والطقوس المعروفة في يهوذا. إلا أن هذه المعتقدات والشعائر، كما تبدو في مخطوطات الفيلة، لا تمت إلى الدين التوراتي بصلة، فالإله ياهو، رغم علو مكانته، ليس الإله الأوحد للجماعة، بل تظهر إلى جانبه زوجته التي تشير إليها المخطوطات باسم عنات ياهو، والتي ظهرت في النقوش الكتابية من فلسطين تحت اسم عشيرة أو عشيرة يهوه. كما تذكر المخطوطات أسماء آلهة أخرى، مثل إيشيم وبت إيل وعناة-بت إيل وغيرهم. وبما أن الجالية في جزيرة الفيلة قد سمحت لنفسها بطلب المعونة من سكان يهوذا والسامرة من أجل إعاة بناء هيكل ياهو، وتشاورت مع رجال الدين هناك حول مسائل دينية مشتركة، فإن الاستنتاج المنطقي الذي يطرح نفسه هو أن ديانة يهوه في فلسطين لم تكن حتى ذلك الوقت المتأخر قد اكتسبت الشكل التوراتي بعد، وأنها ما زالت في طور التشكل على أيدي كهنة أورشليم بعد العودة من المنفى.
إن خلاصة ما يمكن قوله فيما يتعلق بإسرائيل ويهوذا التاريخيتين هو أن هاتين الدولتين قد نشأتا تباعا في فلسطين كجزء من النظام العالمي للإمبراطورية الآشورية، ثم دخلتا في صراع مرير إبان فترة صعود مدينة أورشليم، من أجل السيطرة التجارية والسياسية على منطقة فلسطين وشرقي الأردن. وقد واجهت كل منهما منفردة، وعلى طريقتها الخاصة، المد التوسعي لكل من مملكة آرام دمشق، التي نشأت خلال الفترة نفسها، ومملكة آشور. وبما أننا لا نستطيع فهم مسار حياة هاتين الدولتين والأحداث التي قادت إلى دمارهما إلا من خلال علائقهما مع دمشق وآشور؛ القوتين العظميين في ذلك الوقت، فإننا سوف نعمد في القسم الثاني من دراستنا هذه إلى تقصي تاريخ إسرائيل ويهوذا من خلال تشابك هذا التاريخ محليا مع تاريخ دمشق، ودوليا مع النظام العالمي الآشوري. وسيكون اعتمادنا بالدرجة الأولى على النصوص التاريخية الآشورية ثم الآرامية، وبالدرجة الثانية على أخبار ملوك يهوذا والسامرة في سفري الملوك الأول والثاني، وذلك بعد نقدها وتمحيصها ومقارنتها بالمصادر الخارجية من أجل فرز الخيالي عن الواقعي فيها. وسنبتدئ أولا برسم الصورة التاريخية لصعود مملكة دمشق، وتكوينها لإمبراطورية سورية غير معلنة ضمن مناطق غربي الفرات تحت قرار سياسي واحد، يتخذه ملك آرام المقيم في دمشق.
الفصل الثالث
الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
(1) الآراميون
لا يوجد مكان تعايشت فيه الثقافة البدوية مع الثقافة الحضرية، وتبادلتا الاعتماد على بعضهما البعض مثل منطقة الهلال الخصيب. فمنذ العصر النيوليتي كان سكان المنطقة يتبادلون الأدوار، حيث يتحول الرعاة إلى مزارعين مستقرين كلما مال المناخ نحو الرطوبة والبرودة، ويتحول المزارعون المستقرون إلى رعاة كلما جف المناخ وعز المطر. ولعل التفسير الأقرب إلى الصواب لظاهرة الهجران المفاجئ للقرى الزراعية النيوليتية في بعض أحقابها، وخلوها من السكان دون شواهد على حدوث تدمير متعمد أو زلازل وحرائق في مواقعها، هو ذلك التفسير الذي يرى في تلك الظاهرة نتاجا لتحول مناخي دفع السكان إلى ترك الزراعة والتجول مع قطعانهم بحثا عن المرعى، ثم العودة إلى مواقعهم السابقة أو الاستقرار في غيرها مع عودة الشروط الملائمة للزراعة مجددا.
وقد بقي القوم على هذا الحال، حتى بعد ظهور المدن وارتقاء الحضارات الكبرى في المنطقة. ولعل أكبر مثال على التحول الجمعي لثقافة بأكملها، تقريبا، من حياة القرية الزراعية وحياة المدن الكبرى إلى حياة الرعي المتنقل أو البداوة؛ هو ما حدث في مناطق بلاد الشام خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر إلى عصر البرونز الوسيط (أي فيما بين أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني قبل الميلاد). فخلال هذه الفترة انتهى المناخ المطري البارد الذي ساد المنطقة منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، وتبعه مناخ حار وجاف أدى إلى انهيار شامل لثقافة عصر البرونز المبكر، فانهارت المملكة القديمة في مصر وإمبراطورية أكاد في وادي الرافدين، وفي المناطق السورية هجرت معظم القرى الزراعية، والكثير من المدن التي تقع في المناطق الحساسة للجفاف، ثم تحولت بعد فترة إلى أطلال. وقد عثر المنقبون في مواقع هذه المدن المهدمة خلال أواخر عصر البرونز المبكر، وخصوصا في منطقة فلسطين، على آثار واضحة تشير إلى قيام حياة بدوية على أطراف المدن القديمة، فظنوا أن هؤلاء البدو هم المسئولون عن ذلك التدمير. وفي الحقيقة، فإن ما لاحظه المنقبون لم يكن سوى ظاهرة عادية ومألوفة في سياق حضارة الشرق القديم، حيث تحل البداوة محل الحضارة، وتنتقل هذه إلى تلك، كوسيلة عملية للتعامل مع الطبيعة في هذا الجزء من العالم. ففي نهاية عصر البرونز المبكر أخذت الجماعات الآمورية بالظهور حول المدن المهدمة، وحول المدن التي بقيت تتنفس بصعوبة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية. ولكن هذه الجماعات البدائية نفسها هي التي كتبت الصفحة التالية في حضارة الشرق القديم، وأعني بها حضارة البرونز الوسيط.
ولقد أعاد التاريخ نفسه في الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، عندما أدت الكارثة المناخية الشاملة إلى هجرات واسعة وتحولات سكانية شملت شرقي أوروبا واليونان وبحر إيجة والأناضول وأقطار شرقي المتوسط. فانطلقت شعوب البحر من مواطنها في بحر إيجة تبحث عن أرض جديدة في الشرق، وحلت المجاعة في أرجاء المملكة الحثية جميعها، وفي مناطق سوريا وفلسطين. ويبدو أن المملكة الحثية قد انهارت من الداخل قبل وصول شعوب البحر إليها، وكذلك المدن السورية التي كانت مزدهرة خلال البرونز الأخير، مثل أوغاريت وغيرها. فمن المرجح أن أوغاريت قد هدمتها الزلازل قبل وقت من وصول شعوب البحر إليها، وهجرها أهلها لعدم قدرتهم الاقتصادية على إعادة البناء، وكذلك بعض المدن الكبرى الأخرى في سوريا وفلسطين. وربما تحول هؤلاء السكان إلى رعاة متنقلين، أو إنهم أوغلوا شرقا بحثا عن أماكن أكثر ملاءمة لاستقرار جديد. وبذلك تكون شعوب البحر قد وصلت إلى مناطق مقفرة ومهدمة لم تشجعها على الاستقرار، لذلك فقد تابعت هذه الجماعات التائهة - التي كانت ترتحل مع نسائها وأطفالها وأدواتها المنزلية الخفيفة - مسيرتها نحو مصر، حيث قضى الفرعون رمسيس الثالث على كل طاقتها وزخمها القتالي. ولم تمض بضعة عقود حتى ذابت هذه الجماعات الغريبة في الأمكنة التي توقفت عندها، وضاع أثرها.
خلال هذه الفترة القاتمة أخذت القبائل الآرامية، التي كانت متواجدة منذ زمن طويل في البادية السورية وعلى أطراف المناطق الزراعية في الهلال الخصيب، بالظهور على المسرح مستفيدة من فترة الفراغ الشامل وحالة الفوضى والاضطراب، التي ميزت نهاية البرونز الأخير وبداية عصر الحديد. وعندما أخذت موجة الجفاف بالانحسار مع التقدم في عصر الحديد الأول (1200-1000ق.م.) كانت هذه القبائل قد استقرت في الأرض، وأخذت ببناء القرى الزراعية فالمدن الكبرى فالممالك. وقد ساعدها على ذلك غياب القوى العظمى التقليدية من حولها، والوضع الداخلي المتضعضع لمناطق الجزيرة العليا وغربي الفرات، وانعدام السلطة المركزية فيها. ومع مطلع القرن العاشر قبل الميلاد كان الآراميون قد شكلوا دويلات قوية على طول حوض الخابور وحوض الفرات الأوسط والأعلى، وفي الشمال السوري فيما بين الفرات والبحر المتوسط، وكذلك فيما بين حلب شمالا ودمشق في الجنوب السوري. وفي مقابل الضغط الآشوري العسكري على بلاد آرام منذ مطلع القرن العاشر قبل الميلاد، كان الآراميون يمارسون ضغطا سلميا ومعاكسا على منطقة وادي الرافدين، وخصوصا باتجاه بابل، حتى استطاع الفرع الكلداني من المجموعة الآرامية السيطرة تماما على جنوب بلاد الرافدين بعد فترة من التسرب التدريجي، وأسس المملكة البابلية الجديدة في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، التي كان نبوخذ نصر ثالث ملوكها.
نامعلوم صفحہ