آرام دمشق اور اسرائیل
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
اصناف
(1) خلاصة ما تقدم
لقد تتبعنا في القسم الأول من هذه الدراسة إسرائيل التوراتية كما رسمتها الأسفار المسماة بالأسفار التاريخية في كتاب التوراة، وبذلنا كل جهد ممكن من أجل التحقق من الوجود التاريخي لكل مرحلة من مراحل تشكلها وتطورها، وذلك ابتداء من عصر الآباء، وانتهاء بانهيار المملكة الموحدة وانقسامها إلى مملكتين في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، فلم نعثر على بينة واحدة تؤكد ذلك الوجود. وعلى العكس، فإن الشواهد الجديدة التي تجمعت لدينا تنفي نفيا قاطعا أية إمكانية لظهور كيان سياسي أو إثني من أي نوع اسمه إسرائيل قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك عقب بناء مدينة السامرة التي صارت عاصمة لمنطقة الهضاب المركزية في فلسطين، فهنا يظهر لأول مرة كيان سياسي اسمه إسرائيل، وتأخذ ملامحه الإثنية بالتوضح عقب الاتجاه نحو المركزية السياسية التي بدأت تجمع تدريجيا القرى الزراعية التي نشأت حديثا في عصر الحديد الأول، والتي جاء مستوطنوها من مصادر متنوعة لا من مصدر واحد. ومرة أخرى، فإن إسرائيل-السامرة هذه لا يربطها بصورة إسرائيل-السامرة في التوراة إلا أوهى الروابط. وكذلك يهوذا التي نشأت بعدها بقرنين من الزمان. فالدولتان قد نشأتا تباعا في فلطسين بعد القرن العاشر قبل الميلاد، ولم تسبقهما مملكة واحدة كانت أصلا لهما، ولا وجود لأرضية مشتركة جمعت بينهما. وكما نشأت هاتان الدولتان تباعا فقد دمرتا تباعا أيضا، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف.
إن البحث عن التاريخ في النص التوراتي هو عمل أشبه بالبحث عن السمسم في كيس من البندق؛ لأن النص التوراتي ليس نصا تاريخيا بأي معيار حديث أو قديم، وهو لم يقصد لأن يكون نصا تاريخيا، إنه قصة أصول يغيب فيها الحدث المدقق المحقق لصالح العقدة القصصية. وحتى عندما تتوفر للمحرر التوراتي بعض المعلومات التاريخية عن الفترات المتأخرة من حياة مملكتي إسرائيل ويهوذا فإنه لا يضع هذه المعلومات في سياقها التاريخي الصحيح، ولا يعمد إلى فهمها من خلال الإطار العام للأحداث الجارية في المنطقة، بل من خلال المنظور الأيديولوجي اللاهوتي، الذي لا يرى في الحدث المرصود إلا نتاجا لردود الفعل المتبادلة بين الإله وشعبه. إن الأسفار المدعوة بالتاريخية هي سلسلة من المرويات الشعبية ذات الأصول المختلفة، جمعت إلى بعضها في نسيج واهي الحبكة، وترتيب زمني مفروض عليها من خارجها، سواء فيما يتعلق بأحداث القصة الواحدة، أم فيما يتعلق بالقصص المتتابعة التي ألصق بعضها إلى بعض، والتي تظهر فجوات لا يمكن عبورها بشكل منطقي. أما الزمرة الثانية الرئيسية من أسفار التوراة، وهي أسفار الأنبياء، مثل إشعيا وإرميا وحزقيال، فليست إلا مجموعات من أقوال ومأثورات حكموية قديمة، تختصر ألف عام تقريبا من التقاليد النبوئية في فلسطين والمناطق المجاورة لها. وموضوع هذه التقاليد هو إدانة السلوك العام للناس، ونقد الحكومات، والكشف عن الانحرافات والمظالم والانحطاط الخلقي والنفاق الديني في المجتمع. وقد قام المحررون التوراتيون بجمع هذه المادة الغنية القديمة، فرتبوها وصنفوها ووضعوها على لسان شخصيات نبوية متميزة قد يكون بعضها من أصل تاريخي. ثم جعلت هذه المادة تدور حول فكرة أساسية في أسفار الأنبياء جميعها، وهي أن دمار إسرائيل ويهوذا كان بمثابة عقاب إلهي على خطايا الجماهير والحكام، وتجاهلهم عبادة الإله الحق، وأن الرحمة الإلهية سوف تلحق بالتوابين العائدين من السبي البابلي إلى حظيرة الرب. ورغم احتواء أسفار الأنبياء على العديد من الأخبار المتعلقة بدولتي إسرائيل ويهوذا وأخبار فترة السبي البابلي إلا أن هذه الأخبار ترد خارج سياقاتها التاريخية، وتوظف لخدمة الرؤية اللاهوتية.
إن هم المحرر التوراتي ليس هما تاريخيا بالدرجة الأولى، بل هم تراثي، إنه يعمل على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ليصنع منها قصة أصول. وضمن هذا الجنس الكتابي فإن المحرر يلجأ إلى استبعاد ما حصل فعلا، هذا إذا توفرت لديه المادة الموثقة، لصالح رغبته في تصديق سلسلة ما من الأحداث، أو جعل قارئه في حالة تصديق لها. وليس الناتج الأخير لهذه العملية الشاقة فعلا والمعقدة إلا جنسا كتابيا هجينا لا يربطه بجنس الكتابة التاريخية إلا أوهى الروابط.
لقد استطعنا من خلال النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي للأسفار التاريخية أن نظهر وبالتفصيل أن محرري التوراة في الفترات المتأخرة إبان العصر الفارسي لم يكن بين أيديهم معلومات تتعلق بتلك الفترات الموغلة في القدم التي يروون عن أحداثها، سواء أكانت هذه المعلومات متناقلة شفاها أو كتابة، وذلك من عصر الآباء إلى انهيار المملكة الموحدة. أما المصادر الكتابية - التي يدعي المحررون في بعض المواضع الاستناد إليها - فإننا غير متأكدين من وجودها أصلا، ولا من الطريقة التي عمد المحررون إلى الإفادة منها، وذلك مثل سفر ياشر وسفر موسى وغيرها.
ففيما عدا مصر - التي لم يذكر النص التوراتي اسم فرعونها في سفر التكوين وفي سفر الخروج، ولم يورد أية معلومات يمكن أن تساعد على تبين الحقبة الموازية في التاريخ المصري - فإن النص التوراتي لم يتعرض إلا للشعوب والقبائل المجاورة للمناطق الهضبية التي قامت على أراضيها فيما بعد دولتا إسرائيل ويهوذا، وذلك مثل موآب وآدوم وعمون في الشرق، وفلستيا في الغرب. وغالبا ما وردت أسماء هذه الشعوب في سياق زمني يتضمن مفارقة تاريخية واضحة. فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج لم تكن موجودة في ذلك الوقت على ما يبينه المسح الأركيولوجي للمنطقة. ومنطقة الساحل الفلسطيني الجنوبي - التي يدعوها سفر الخروج بأرض الفلسطينيين (= الفلستيين) - لم تكن قد استقبلت زمن الخروج أية موجة من موجات شعوب البحر من فلستيين وغيرهم. ومن بين الممالك الفينيقية على الساحل السوري جميعها لم يرد إلا ذكر صيدون. أما بقية تلك الممالك من أوغاريت إلى صور فغائبة تماما. ومثلها تلك الممالك الكبرى التي ازدهرت من حول أولئك الإسرائيليين المفترضين عبر عصورهم. فبابل حمورابي في بلاد النهرين، وماري على الفرات الأوسط، وحلب (يمخاض) وآلالاخ في الشمال السوري، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى؛ غائبة عن سير عصر الآباء الذين كانوا يرتحلون بين الفرات وفلسطين، وكأنما يتحركون على مسرح خال تماما إلا من القبائل الرحل وآبار المياه في الواحات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالممالك الحثية الجديدة في الشمال السوري، والممالك الآرامية الجديدة على الخابور والفرات وفي المناطق الغربية، التي ازدهرت منذ مطلع عصر الحديد، فجميعها غائب عن عصر يشوع وعصر القضاة، وكذلك مصر التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على وادي يزرعيل وعدد من النقاط الاستراتيجية الأخرى. وفي عصر المملكة الموحدة لا يرد ذكر لآشور التي كان نفوذها قد تجاوز الفرات ووصل إلى مناطق الساحل، ولا للممالك الآرامية القوية التي كانت تقارع آشور على الفرات وفي الشمال السوري. وبدلا من هذه الممالك التي تجملها أخبار الملك داود تحت عنوان «آرام التي في عبر النهر»، فإن محرر سفر الملوك الأول يبتكر ممالك لم يرد لها ذكر في التاريخ، ولم تقم الدلائل الأركيولوجية على وجودها، وذلك مثل آرام صوبة ومعكة وبيت رحوب وجيشور وغيرها. وبالمقابل فإن السجلات الكتابية للحضارات القديمة جميعها لم تورد خبرا واحدا يدعم الرواية التوراتية من عصر الآباء إلى قيام أسرة الملك عمري وبناء مدينة السامرة في النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد.
فمع قيام أول أسرة حاكمة في إسرائيل، وهي أسرة الملك عمري الذي بنى السامرة حوالي عام 880ق.م.، يبدأ اسم إسرائيل بالظهور في وثائق الشرق القديم، ولكن بصيغة إسرائيل-السامرة لا بصيغة دولة كل إسرائيل التوراتية. أما دولة يهوذا فلم يرد ذكرها، ولا ذكر أحد من ملوك أورشليم إلا بعد مرور قرن ونصف القرن على ورود اسم إسرائيل وأسرة عمري. فقد ورد اسم آحاز ملك يهوذا في وثائق آشور حوالي عام 732ق.م. بشكل عارض، وضمن لائحة الملوك الذين أرسلوا الجزية إلى الملك تغلات فلاصر في نينوى، وهذا أول ذكر في التاريخ لأي ملك من ملوك يهوذا أو أورشليم، الأمر الذي يقدم بينة إضافية على أن مملكة يهوذا قد نشأت بعد مملكة إسرائيل ولم تعاصرها إلا فترة قصيرة فقط. من هنا، فإن ملوك أورشليم السابقين الذين يرد ذكرهم في المرويات التوراتية على أنهم ملوك يهوذا لم يكونوا (في حال صحة الأخبار التوراتية عن أسمائهم وسنوات حكمهم) سوى أمراء محليين لمدينة أورشليم التي كانت صغيرة ومنعزلة عن الأحداث الدولية.
وتقدم نتائج علم الآثار صورة أكثر تخييبا للآمال في العثور على إسرائيل التوراتية. فالمواقع الفلسطينية جميعها في منطقتي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، وخارجهما؛ تظهر استمرارية ثقافية محلية كنعانية فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الثاني، ولا يوجد أي دليل أثري على حلول أقوام جديدة في هذه المنطقة جلبت إليها تقاليد ثقافية مغايرة. وقد سقطت اليوم إلى غير رجعة نظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قبل القبائل الإسرائيلية الموحدة تحت قيادة يشوع بن نون، وتدمير مدنها الرئيسية؛ لأن نتائج التنقيب الأثري في هذه المواقع تنفي الرواية التوراتية. أما عن المملكة الموحدة، فإن المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية - التي كانت نواة هذه المملكة - ينفي وجود قاعدة سكانية واقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر، تسمح بقيام مثل هذه المملكة. فمملكة داود وسليمان ليستا مستبعدتين تاريخيا فقط، بل إنهما مستحيلتا الوجود. ناهيك عن نتائج التنقيب الأثري في موقع أورشليم ذاتها، والذي أظهر أن مدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن إلا بلدة صغيرة جدا، ومن غير الممكن أن تكون هذه البلدة قد استطاعت بناء هيكل ديني يربو على مساحتها، وبناء قصور ملكية لسليمان وزوجاته، وصروحا مدنية وإدارية ضخمة. وذلك إضافة إلى عدم العثور على أي شاهد أثري على أن هذه الأبنية قد قامت في يوم من الأيام.
أما في القسم الثاني من دراستنا فقد تتبعنا اتجاهات البحث التاريخي الحديث في أصول إسرائيل، وبسطنا أمام القارئ أهم النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فوجدنا أنه فيما عدا البقية المتعنتة من أصحاب الاتجاه المحافظ التقليدي فإن نظريات الباحثين المحدثين قد نحت جانبا الرواية التوراتية في أصول إسرائيل، وحاول كل منها على طريقته البحث عما حدث فعلا خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد وأدى إلى نشوء إسرائيل. ثم انتقلنا اعتمادا على النتائج الميدانية للمسح الأركيولوجي الشامل لمنطقتي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا إلى رسم الصورة الأكثر قربا إلى الحقيقة التاريخية لتشكل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، ووجدنا أن هاتين الدولتين قد نشأتا على الخلفية الثقافية العامة لعصر البرونز الأخير في فلسطين في حقبتين متباعدتين وشروط مختلفة. فبينما اكتملت القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام إسرائيل في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، فإن القاعدة السكانية والاقتصادية اللازمة لقيام يهوذا لم تكتمل قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مصادر فلسطينية محلية متعددة ومن المناطق الرعوية في البلاد المجاورة، إضافة إلى شرائح سكانية مقتلعة من مواطنها في حوض المتوسط. ويظهر الطابع الثقافي الكنعاني السائد في المواقع التي تم التنقيب فيها جميعها أن الشريحة السكانية المحلية لا بد وأنها كانت الغالبة على التركيب السكاني في إسرائيل ويهوذا. من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين ليست أكثر من الروابط التي جمعت أية دولتين أخريين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية. وقد بينا أن المساحة التي شغلتها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعد المناطق الهضبية من فلسطين إلا في الأزمنة المتأخرة، وعلى شكل مد استعماري قصير الأجل، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المستعمرة وضم أراضيها بشكل كامل. وإذا كان كل من إسرائيل ويهوذا قد حقق في منطقته الهضبية نوعا من الإثنية خلال الفترة القصيرة لحياته، فإن هذه الإثنية لم تصمد أمام التخريب الشامل للطابع الإثني لفلسطين نتيجة لسياسة الاقتلاع والتهجير الآشورية، ثم البابلية. ودخلت مناطق فلسطين جميعها العصر الفارسي وقد تغيرت بشكل جذري.
إضافة إلى تباين أصول إسرائيل ويهوذا، واختلاف مسار حياتهما ومصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسا من القاعدة الدينية التي جمعت أية مملكتين في فلسطين وسوريا الجنوبية خلال تلك الفترة من حياتهما. لقد ابتكرت قصة الأصول التوراتية كيانا إثنيا اسمه «كل إسرائيل» منذ مرحلة الخروج من مصر، ثم ابتكرت له صيغة سياسية وجدتها في مملكة داود وسليمان. ولكي تكتمل وحدة هذا الكيان فقد سحب محررو التوراة تصوراتهم الدينية التي نضجت خلال العصر الفارسي على مراحل قصة الأصول جميعها، وجعلوا الإله الواحد المجرد الذي بشرت به أسفار الأنبياء إلها للقبائل الإسرائيلية منذ بداياتها الأولى. فهذا الإله المتأخر هو نفسه إله الآباء، وهو الذي أعطى الشريعة لموسى على جبل حوريب، وهو الذي بنى له سليمان هيكلا في أورشليم. إلا أن المحررين لم يفلحوا في ضبط الإطار الأيديولوجي الديني لتلك القصص القديمة التي بقيت تسبح في أجوائها الدينية الأصلية، وكهنوت أورشليم في العصر الفارسي الذي كان مدفوعا بهاجس لاهوتي توحيدي بتأثير المناخ الفكري السائد خلال العصر البابلي الجديد والعصر الفارسي قد أخفق في فرض رؤياه عبر تفاصيل قصة الأصول.
نامعلوم صفحہ