Arab Thought in the Renaissance Era
الفكر العربي في عصر النهضة
ناشر
دار النهار للنشر بيروت
اصناف
الحضرية. فعقائد ابن تيمية كانت تشكل، ضمنًا، احتجاجًا على الفوضى والعقائد الوثنية لدى البدوي العربي الذي لم يعرف قط الإسلام على حقيقته، ولدى الجنود الأتراك أيضًا. من هنا ذلك الخط الفاصل الذي رسمه مجددًا للتمييز بين الجاهلية والإسلام، بين العصبية والتضامن الديني. وقد بقيت هذه المفارقات قائمة لدى مفكر آخر، أتى بعده بقليل، ومر بخبرة مماثلة، إلا أنه كان على اقتناع أشد بتعقد الطرق التي يمكن بها الجمع بين النقيضين.
كان ابن خلدون (١٣٣٣ - ١٤٠٦) متنبهًا، كابن تيمية، إلى تحدي البدو للحياة الحضرية والمتمدنة. فهو يقول إنهم، إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب، إذ طبيعتهم منافية للعمران، ولا تعنيهم الشريعة والقوانين، وهم يتنافسون على الرئاسة لأنهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض إلا إذا سهل الدين انقيادهم واجتماعهم (١٨).
غير أن ابن خلدون كان يعتقد أيضًا أن لهم دورًا آخر يقومون به. فهم، إذ يهدمون العمران يبنون الدول. وقد شغلته أيضًا مسألة أخرى، ربما تفرد بها بين مفكري الإسلام، هي مسألة كيفية الاستيلاء على الحكم والاحتفاظ به، والتغييرات التي تطرأ عليه، وثمرة الحكم الصالح التي هي العمران أو حياة المدن. فهو يعترف كل الاعتراف بالدور الجوهري الذي يلعبه الخير العام والشريعة الإلهية في الحفاظ على استقرار الدول وازدهارها، إلا أنه يعتقد بضرورة عنصر آخر لنشوء الدول، هو عنصر التضامن الطبيعي، القائم على أواصر الدم أو على شيء مماثل لها، والمستهدف استلام الحكم؛ وهو ما يسميه بالعصبية، التي هي أقوى لدى البدو منها في أي مجتمع بشري آخر. فالعصبية، كفكرة مجردة، قد تكون النقيض لمفهوم الخير العام المستمد من الشريعة المنزلة. لكن ابن خلدون كان يرى أن لا إمكانية لنشوء الدول المستقرة ما لم يتضافر الخير العام والشريعة مع العصبية بشكل من الأشكال، وأن هذا التضافر قد يتم على مختلف الوجوه. وعلى هذا، أقام سلمًا لأنواع
1 / 36