آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
اصناف
كانت النزعة التجريبية - كما ظهرت في دعوة بيكن إلى تطبيق العلم على مجال الصناعات - تمثل أول مظهر من مظاهر التحول الفلسفي الذي هيأ الأذهان لقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكري للعصر الصناعي الحديث، ولكن لهذا التحول الفلسفي مظهرا آخر لا يقل تأثيرا عن هذا المظهر الأول في عملية التهيئة العقلية هذه، هو النزعة التجريدية كما تمثلت في تطبيق العلم الرياضي على الأبحاث الطبيعية.
ولقد كانت للتفكير الرياضي في فلسفة الغرب جذور قديمة العهد، ترجع إلى أيام فيثاغورس الذي أعلن - لأول مرة - إمكان تفسير ظواهر الكون كلها تفسيرا رياضيا ، وازدهر هذا التفسير الرياضي للظواهر أيام إقليدس وبطليموس اللذين قاما بأبحاث رائعة كان من الممكن أن تثمر علما طبيعيا ذا صبغة رياضية دقيقة، ومع ذلك فإن العالم القديم كله لم يقدم على هذه المحاولة، وذلك للأسباب التي أوضحناها في المقال السابق.
وكانت نتيجة ذلك أن الفكر اليوناني نظر إلى العالم الذي نعيش فيه على أنه عالم متغير خداع لا يمكن أن ينطبق عليه علم ذو موضوعات «أزلية» ثابتة كالرياضة؛ فللعلم الرياضي مجاله الخاص المترفع على هذا العالم، وهو ينحط ويفقد امتيازه وترفعه إذا ما طبق على عالم الواقع المتغير . إن كل شيء في الرياضة ثابت ودقيق، على حين أن كل ما في هذا العالم «تقريبي» فحسب، فكيف تتفق الدقة مع التقريب؟ وكيف يمكن أن يخضع عالم المحسوسات المتغيرة للرياضيات العقلية الثابتة؟ وكيف تنطبق المجردات الرياضية على العالم العيني الواقعي؟ كل ذلك كان بطبيعة الحال مستحيلا في نظر القدماء؛ إذ إن الهوة الشاسعة بين مجال الفكر ومجال الفعل أدت إلى الفصل القاطع بين مجال عقلي أرستقراطي كالرياضة، ومجال عرضي متغير كمجال الطبيعة، وإذا كان من الجائز أن تنطبق الرياضة على العالم فلا يمكن - في رأيهم - أن يكون ذلك إلا العالم السماوي؛ عالم الأفلاك، أما العالم الأرضي؛ عالم «ما تحت فلك القمر»، فلا مجال فيه للدقة الرياضية على الإطلاق.
وفي العصور الوسطى لم يطرأ تغير حاسم على العلاقة بين الرياضة وبين عالم الطبيعة، ولم يحاول أحد أن يطبق الأعداد والمقاييس والموازين الدقيقة على دراسة العالم المحيط بنا، ويتخذها أساسا لمعرفة علمية دقيقة؛ ذلك أولا لأنه لم تكن هناك أدوات للملاحظة، وإنما كان على الإنسان لكي يلاحظ أن يكتفي باستخدام عينيه فحسب، دون استعانة بأية آلة بصرية، ومن جهة أخرى لم تكن هناك لغة أو نظام من الرموز يتيح التعبير عن الملاحظات بدقة، ويساعد على إضفاء صبغة رياضية على العلاقات بين الظواهر المتغيرة، فحتى عصر النهضة الأوروبية لم تكن العمليات الحسابية العادية شيئا هينا، وإنما كان من الشائع استخدام أجهزة خاصة لإجراء أبسط عمليات العد، ولمساعدة الذهن المجهد على إتمام هذه العمليات، ولم يكن الجميع يستخدمون الأرقام العربية التي بسطت عمليات الحساب إلى حد بعيد، بل كان الكثيرون ما زالوا يستخدمون الأرقام الرومانية البدائية المعقدة. وعلى أية حال فإن الخطأ في هذه العمليات لم يكن يعنيهم كثيرا؛ إذ إن كل شيء كان في نظرهم «تقريبا»، ولم تكن الدقة الرياضية قد تغلغلت بعد في حياة الناس على النحو الشائع في العصر الحديث.
ولقد أدت عوامل معقدة إلى حدوث ذلك التحول الحاسم في أوائل العصر الحديث؛ أعني الانتقال من الفصل التام بين الرياضة والطبيعة إلى التوحيد المثمر بينهما.
ولكن لعل العامل الاجتماعي والاقتصادي من أكثرها أهمية وطرافة؛ فقد كان ظهور طبقة التجار في عصر النهضة الأوروبية، وازدهار هذه الطبقة في المدن الأوروبية على حساب طبقة النبلاء الإقطاعيين، باعثا للحاجة إلى تطبيق الحسابات الرياضية على المعاملات النقدية التي كان يقوم بها هؤلاء التجار؛ ذلك لأن إدارة الأعمال التجارية تقتضي معرفة واسعة بالعد والحساب، وتحتاج من رجل الأعمال إلى نظرة تجريدية صارمة، بدونها لا يكون ناجحا في أعماله، وحين يشيع التعامل بالنقود ويتغلغل في حياة الناس اليومية، ويحل محل المقايضة بالسلع، يكون معنى ذلك مزيدا من التجريد؛ إذ إن النقود أشبه بالرموز الرياضية، من حيث إنها لا تعني في ذاتها شيئا، بل إنها تكتسب معناها كله مما يستعاض به عنها في التعامل النقدي.
وهكذا اكتسبت الأعمال التجارية صبغة مجردة بفضل انتشار المعاملات المالية، واستخدام الكميات والمقادير النظرية الخالصة في حسابات التجار.
ومن جهة أخرى فقد كان العلم ذاته يسير في اتجاه مماثل يرمي إلى الاهتمام بالعلاقات الرياضية بين الأشياء لا بالصفات النوعية أو الكيفية الكامنة فيها، واتجه العلماء تدريجيا إلى اتخاذ الدقة الرياضية والتجريد الكامل مثلا أعلى يهدفون إلى تحقيقه في كل بحث في الطبيعة، ولا شك في أن الأدوات العلمية التي استعان بها علماء القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت من أهم الوسائل التي ساعدت على توطيد دعائم النظرة التجريدية إلى الأمور، وبالتالي على تمهيد الطريق - عقليا - للثورة الصناعية الحديثة، ويمكن تقسيم هذه الأدوات - بوجه عام - إلى أدوات مكانية وأخرى زمانية؛ فالميكروسكوب والتلسكوب أداتان تعملان على تقريب المكان وتكبيره واختصار مسافاته، وعلى مضاعفة حدة حاسة الإبصار، وتوسيع نطاق العالم المكاني الذي نتعامل معه. ونتيجة لاستخدام هذه الأدوات المكانية أخذ العقل الإنساني يدرك - لأول مرة - أن الطبيعة المحيطة به امتداد هائل متجانس، لا يوجد فيه تفاوت في القيمة أو المرتبة بين ما هو أعلى وما هو أدنى، أي بين عالم السموات وعالم الأرض، بل إن المادة المنتشرة في الكون بأسره متشابهة، وحركاتها كلها تخضع لقوانين واحدة يمكن التعبير عنها رياضيا.
أما الساعة فهي أداة زمانية أتاحت للإنسان أن يدرك الوقت - لأول مرة - إدراكا دقيقا، وأن يقسمه إلى فترات قصيرة محددة بدقة، والواقع أن اختراع الساعة الميكانيكية كان من أهم العوامل التي مهدت الطريق للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ليس فقط لأنها هي ذاتها أنموذج كامل للآلة المكتفية بذاتها، التي تسير بدقة ونظام دون أن تحتاج إلا إلى أقل قدر من التدخل الخارجي، بل أيضا لأنها كونت في الناس عادات فكرية وعقلية جديدة تساعد على توطيد دعائم فكرة الآلية في الأذهان؛ فاختراع الساعة كان مرتبطا أوثق الارتباط بحياة حضرية أو صناعية تقتضي تنظيما دقيقا للأعمال والمواعيد، أما البيئات الزراعية، أو تلك التي تسودها العقلية الزراعية الريفية، فتكتفي بتحديدات تقريبية للزمان، والمواعيد فيها لا تعدو أن تكون «في ساعة الظهيرة» أو «عند حصاد القطن»؛ فالوقت الذي تعرفه هذه البيئات هو الوقت المعاش لا الوقت المحسوب، ومن هنا فإن الساعة الميكانيكية قد أحدثت تغييرا حقيقيا في حياة الناس وأفكارهم ونظرتهم إلى الأمور، ولا يمكن أن تنحصر أهميتها في كونها اختراعا جديدا مفيدا فحسب؛ فبفضل الساعة دخل الناس عصرا جديدا شعاره أن يكون كل شيء «منتظما كالساعة»، عصرا لا يمكن أن يكتفي فيه الإنسان بالتحديد المرن غير الدقيق للوقت أو المواعيد «التقريبية»، وبفضل الساعة أصبح الزمان شيئا مجردا مقاسا بدقة لا شيئا يحياه المرء، وكما يقول «لويس ممفورد»: «فعندما ينظر المرء إلى النهار على أنه فترة مجردة من الزمان، لا يذهب إلى الفراش في نفس الوقت الذي تأوي فيه الطيور إلى أوكارها في ليل الشتاء، وإنما يخترع الشموع والمداخن والمشاعل وضوء الغاز والمصابيح الكهربائية لكي يستفيد من كل الساعات التي تدخل في نطاق النهار، وعندما ينظر المرء إلى الزمان، لا على أنه تجارب متعاقبة بل على أنه مجموعة من الساعات والدقائق والثواني، تظهر عادات إضافة الوقت وتوفير الوقت ... وهكذا أصبح الزمن المجرد هو الوسيط الجديد للحياة، ونظمت الوظائف العضوية ذاتها على أساسه؛ إذ أصبح المرء يأكل، لا لأنه يشعر بالجوع، بل عندما تنبئه الساعة بذلك، وينام لا لأنه يشعر بالتعب، بل عندما تأذن له الساعة بذلك ... وإذن فنحن قد نستطيع أن نتصور العصر الصناعي الحديث بلا فحم ولا حديد ولا بخار، ولكنا لا نستطيع تصوره بلا ساعات.»
تلك إذن كانت أهم العوامل التي أدت إلى إيجاد الجو العقلي الملائم لقبول فكرة الآلية، وتحويل أذهان المفكرين من الاعتقاد بوجود هوة لا تعبر بين الفكر والفعل، إلى الإيمان باندماج هذين المجالين، وبأن أفضل استخدام للعقل البشري هو تطبيقه على الطبيعة من أجل زيادة رفاهية الحياة الإنسانية في هذا العالم.
نامعلوم صفحہ