آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
اصناف
من السهل أن يؤدي التطرف في تأكيد أهمية العنصر القومي في الفلسفة إلى نظريات غريبة عن الروح الفلسفية الحقة، ومن أكثر هذه النظريات خطأ، تلك النظرية التي تستمد خصائص فلسفة أمة معينة من بيئتها الجغرافية، فتتحدث عن تأثير الجبال الوعرة في تفكير اليونانيين أو تأثير الصحراء الشاسعة في تفكير العرب، مثل هذه النظريات لا تستحق منا اهتماما كبيرا، لا لأنها تجهل الحقيقة، بل لأنها تتناول عنصرا ضئيلا من عناصرها وتعممه وتجعل منه أساسا كاملا للتفسير.
وهناك نظريات أخرى تربط بين فلسفة الأمة وبين خصائصها العنصرية، ولقد اشتهرت من تلك النظريات في الآونة الأخيرة، النظرية النازية التي كانت تؤكد وجود صفات عرقية تميز كل شعب، وتذهب إلى أن هذه الصفات هي التي تفسر عبقرية هذا الشعب أو افتقاره إلى العبقرية، وهكذا ذهب النازيون إلى أن الفلسفة الألمانية مرتبطة بالخصائص العنصرية للجنس الجرماني الآري، وأكدوا من جهة أخرى أن هناك شعوبا عاجزة - بحكم تركيبها الطبيعي - عن التفلسف، أو عن الوصول إلى أية نتيجة لها قيمتها إذا ما تفلسفت، وهي بوجه خاص الشعوب السامية، هذه المزاعم بدورها تفتقر إلى أي دليل، وتقوم على أساس لا يمت إلى العلم الصحيح أو الفكر السليم بسبب، ومع ذلك فقد اقتنع بها الملايين في وقت من الأوقات، وكان اقتناعهم بهذا الخطأ الواضح دليلا على مقدار الخلط الذي يمكن أن تجلبه النزعة القومية المتطرفة على الأذهان.
على أننا لو تأملنا حياتنا الثقافية الراهنة بإمعان؛ لوجدنا أننا - لحسن الحظ - لسنا واقعين في هذا النوع من الأخطاء، وربما كانت أخطاء أصحاب النزعة القومية المتطرفة بيننا أقل خطورة بكثير، ومع ذلك فمن الواجب أن نناقشها مناقشة صريحة حتى تظهر لنا العلاقات بين القومية والعالمية في الفلسفة في ضوئها الصحيح.
في بلادنا العربية وفي مرحلتنا التاريخية الراهنة، يعتقد الكثيرون أن الفكر لكي يكون قوميا بالمعنى الصحيح، ينبغي أن يكون «مختلفا»، فهم يتعمدون تأكيد العناصر المتنافرة مع الفلسفات الأخرى، ظانين أن هذه العناصر هي التي تتمثل فيها روح الأمة وتقاليدها الحقة، فإذا اعترضتنا مشكلة من المشكلات، واقترح البعض لها حلا مستمدا من تجارب أمم أخرى سبق أن مرت بنفس المشكلة، وجدت من يسارع إلى رفض هذا الحل آليا، والإتيان بحل آخر مخالف له، قد لا يكون أحد جربه من قبل، ولكنه يفضل على الأول بحجة أنه هو الذي يتمشى مع قوميتنا، وفي اعتقادي أنه لا يكفي لكي يكون المبدأ متمشيا مع قوميتنا أن «يقرر» البعض أنه كذلك، وإنما لا بد من «إثبات» أن هذا المبدأ دون غيره هو الذي يعبر عن قوميتنا تعبيرا صحيحا.
كذلك لا يتعين أن تكون الفكرة قومية لمجرد أنها «تخالف» أو «تغاير» أفكارا صدرت عن مجتمعات أخرى، والخطر الأكبر في هذا النوع من التفكير هو أنه يؤدي إلى نوع من الانعزالية، وإلى ضياع كثير من فرص الاستفادة بالتجارب المفيدة التي يشترك معنا فيها غيرنا من الأمم ، بحجة أن في الاسترشاد بهذه التجارب قضاء على قوميتنا، وكثيرا ما يترتب على التطرف في هذا الموقف الاتجاه إلى المخالفة والعناد لذاتهما، ومعنى ذلك أن يقف المرء من الأمور موقفا سلبيا؛ إذ إن العنيد يظن أنه يؤكد ذاته، على حين أنه في واقع الأمر شخص سلبي يكتفي بالقيام برد فعل عكسي على تصرفات الآخرين، فيكون بذلك مقيدا بهم أكثر مما يظن، وبالاختصار فليس معنى اتجاهنا إلى تأكيد قوميتنا هو أن نتعمد مخالفة آراء الغير في كل صغيرة وكبيرة ونظن أننا بذلك ندعم شخصيتنا القومية، بل إن هذا الدعم لا يكون إلا باتخاذ الموقف الناضج الذي نقف فيه من أفكار الآخرين موقف الواثق من نفسه، ولا نتعمد تأكيد ما يتنافر معها من أجل إقناع أنفسنا باستقلالنا الفكري.
وهناك اعتقاد آخر يتمسك به الكثيرون في هذا المجال، وهو - في رأيي - لا يقل خطأ عن الاعتقاد السابق، وإن يكن أشد منه خفاء، هذا هو الاعتقاد بأن كل ما هو قديم ينتمي بالضرورة إلى صميم الروح القومية؛ ذلك لأن القديم لا يتعين بالضرورة أن يكون قوميا، بل إنه قد يكون دخيلا، شأنه شأن أي اتجاه حديث مستورد، ومع ذلك فإن أصواتا كثيرة تعلو مؤكدة أن الاهتداء إلى قوميتنا الأصيلة لا يكون - أو لا يبدأ - إلا بإحياء التراث الغابر، الذي يعتقدون أنه كله ألصق بقوميتنا من كل ما هو جديد. مثل هذه الطريقة في التفكير تنطوي ضمنا على اعتقاد شائع إلى حد بعيد، ولكنه كثيرا ما يكون بعيدا عن الصواب، هو الاعتقاد بأن القومية فكرة «سكونية» ثابتة ترتبط بالماضي أكثر مما ترتبط بالحاضر، ولو أمعن أصحاب هذا الرأي فكرهم في مقدمتهم الأساسية هذه؛ لوجدوا أنها تقبل اعتراضات حاسمة؛ فقد ثبت في عصرنا الحاضر أن القومية فكرة «ديناميكية» تقوم أساسا على التجدد والحياة، وأنها إذا اكتفت بأن تشد الأمة إلى ماضيها الغابر، ولم تساعده على التطلع إلى مستقبل أفضل، كانت قوة معوقة هدامة، ومن هنا فإن العناصر التي ترتكز عليها فكرة القومية، والتي تتجمع حولها أماني الأمة الواحدة، ينبغي ألا تكون عناصر متجمدة متحجرة، وإنما الواجب أن ترتبط مشاعرنا القومية بحاضرنا ومستقبلنا مثلما ترتبط بماضينا، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول إن نظرتنا إلى التراث ينبغي ألا تكون قيدا يمنعنا من الحركة، وإن موقفنا من التراث ينبغي أن يتقرر تبعا لمقتضيات حياتنا الراهنة؛ فالقديم لا ينبغي أن يتحول إلى صنم مقدس لمجرد كونه قديما، بل إن تبجيلنا واحترامنا له يجب أن يتوقف على مدى قدرته على الإنتاج في حياتنا الحاضرة والإسهام في دفعها إلى الأمام، وليس معنى ذلك أن نتنكر لتراثنا، أو أن نتعمد تأويله تأويلا ملتويا لكي يبدو متمشيا مع اتجاهاتنا الراهنة، بل إن معناه الوحيد هو الخضوع لسنة الحياة التي تجعل من تاريخ الإنسان الغابر دعامة يرتكز عليها في حاضره ويسترشد بها في مستقبله.
أخطاء النزعة العالمية المتطرفة
قلنا من قبل إن الفلسفة - بحكم كونها مبحثا عقليا - لديها نزوع طبيعي إلى العالمية، وإن صفة العالمية تعد - بالتالي - أقرب إلى التعبير عن طبيعة الفلسفة، ومع ذلك فكما يخطئ من يتطرف في تأكيد النزعة القومية في الفلسفة، فكذلك يخطئ من يذهب في تأكيده لطابعها العالمي إلى حد التجاهل التام لكل الفروق التي تترتب على تباين الظروف المحلية والقومية التي تنشأ فيها كل فلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة - كما قلنا - تتناول مضمونا إنسانيا عالميا، موضوعا في إطار قومي محدد، وهذا الإطار المحدد يحتم تأثر المضمون ذي الطابع الشامل بالظروف الاجتماعية المتغيرة للمجتمع القومي الذي تنبع منه الفلسفة، وبالتالي ينبغي في كل فهم سليم للفلسفة أن نعمل حسابا لتأثير تغير هذه الظروف في المضمون الفلسفي الذي يعبر عن نفسه من خلالها.
ومع ذلك فكثيرا ما نرى اتجاهات في فهم الفلسفة تتجاهل هذا العنصر تجاهلا تاما، وقد تكون نقطة بداية أصحاب هذه الاتجاهات هي إدراك الحقيقة التي سبق أن نبهنا إليها من قبل، وهي نزوع الفلسفة بطبيعتها إلى الصبغة الإنسانية الشاملة، غير أنهم يتطرفون في هذا الاتجاه إلى حد إغفال كل تأثير للسياق القومي أو الاجتماعي المحدد في الفلسفة التي تظهر فيه؛ فهم يتصورون الفكر الفلسفي نباتا شاذا تستطيع أن تزرعه في أية تربة، وتستطيع أن تتوقع منه دائما نفس الثمار.
ففي الغرب مثلا ظهرت فلسفات واتجاهات فكرية قد تكون المشكلات التي أثارتها ذات صبغة إنسانية عامة، ولكن الإطار الذي ظهرت فيه هو دون شك إطار محلي تحكمت فيه ظروف خاصة مرت بها المجتمعات الأوروبية على التخصيص، ولم تمر بها المجتمعات الشرقية التي ظلت بمنأى عن هذه المؤثرات، ولأضرب لذلك مثلين: فالاتجاهات اللامعقولة في الفكر والفن والأدب الغربي - ابتداء من السيريالية إلى الرواية الجديدة - هي اتجاهات لم يكن من الممكن أن تظهر إلا في شعوب مرت بتجربة العقل ردحا طويلا من الزمان، حتى سئمت التفكير العقلي وسعت إلى تجاوز حدود المعرفة العلمية وإلى استطلاع آفاق جديدة في عالم مغاير لعالم المنطق، أي إن اللامعقولية - سواء في الفن وفي الفكر والأدب - ظهرت في الغرب نتيجة للتشبع بالمعقولية والرغبة في البحث عن اتجاهات أخرى تجدد نشاط الروح التي سئمت المنطق المنظم، غير أن نقل هذه الاتجاهات نقلا حرفيا في مجتمع شرقي - لم يمر بنفس التجربة - ينطوي على محاكاة آلية تعبر عن فقدان الشخصية والعجز عن الاستقلال الفكري؛ فنحن في الشرق ما زلنا نسعى إلى إقرار حكم العقل، وما زلنا نحتاج إلى كفاح طويل لكي نعود شعوبنا احترام التفكير المنطقي وتطبيقه في شتى أنواع معاملاتهم، فكيف إذن نقفز هذه القفزة المفاجئة، عبر ثلاثة أو أربعة قرون من المعقولية التي مر بها الغرب أولا وأثرى بها حياته في كافة المجالات، لكي نصل دفعة واحدة إلى اللامعقولية؟ وكيف نستطيع - في ظروفنا هذه - أن نجد متعة في اللامعقول ونراه معبرا عن روح العصر، مع أن هذه الروح تتخذ في بيئتنا المحلية طابعا مختلفا كل الاختلاف عنه في البيئات الغربية التي انتشرت فيها الدعوة إلى اللامعقول؟
نامعلوم صفحہ