آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
اصناف
والواقع أن الثورة على الطابع النظري الجاف للتفكير الفلسفي التقليدي لم تقتصر على الأوساط اليسارية المعروفة فحسب، بل لقد شاركت فيها مصادر بعضها - من الوجهة السياسية - يميني النزعة إلى أبعد حد، وبعضها يقف بمعزل عن اليمين واليسار؛ لأن فلسفته لا تزعم أنها تتخذ هذا الموقف السياسي أو ذاك، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد تلك الحملة القاسية التي وجهها الفيلسوف الألماني «نيتشه» إلى الفيلسوف التجريدي الخالص بوصفه نمطا مشوها من البشر، وكذلك المحاولات العديدة التي تبذلها مذاهب كالبرجماتية والوضعية القديمة والحديثة، لاستبعاد المشكلات الميتافيزيقية الخالصة من مجال الفلسفة، وهكذا تمتد الثورة على الطابع النظري المفرط للفلسفة حتى تشمل أوساطا خارجة عن «اليسار» بمعناه المألوف، تتفق معه في الجانب السلبي من نظرته إلى الفلسفة، أعني في الحملة على إغراق الفلسفة التقليدية في التجريد.
بل إن البعض ليذهب في الثورة على هذه الأوضاع إلى حد القول بأن في الفلسفة التقليدية شيئا ينتمي إلى باب الظواهر المريضة أو المعتلة؛ فهذه الفلسفة تدرس المعرفة - مثلا - على أنها «مشكلة»، لا على أنها «أمر واقع»، وبذلك تضيع جهودها في دراسة المشكلة ومحاولة الإتيان بحل لها، بدلا من أن تكرس هذه الجهود لتنمية المعرفة وتوسيعها بعد أن تسلم مقدما بوجودها، وهي تدرس الأخلاق على أنها مشكلة نظرية بدورها، فيحاول كل مذهب أن يأتي بقاعدة عقلية للسلوك، ولكن دون أن تفلح مذاهب الأخلاق النظرية كلها - منذ نشأتها إلى اليوم - في تغيير السلوك الفعلي للناس أو التأثير فيه على أي نحو، على حين أن أكثر الناس تأثيرا في سلوك البشر هم أبعدهم عن الادعاء بأنهم أصحاب مذاهب «أخلاقية» فلسفية، وأقلهم كلاما عن قواعد السلوك، وهي تدرس المناهج العلمية بعد أن تكون هذه المناهج قد وضعت، وربما بعد أن يتجاوزها العلم ذاته ويتخطاها، وبذلك لا تؤدي دراستها لها إلى تقدم العلم خطوة واحدة إلى الأمام، وما هذه إلا أمثلة قليلة تدل على أن الفلسفة - في طابعها النظري التقليدي - يمكن أن تدرس بوصفها استخداما «مرضيا» للعقل البشري، يتخذ فيه التجريد غاية في ذاتها، دون محاولة لتبيان مدى صلاحية هذه التجريدات للانطباق على الواقع والحياة.
ولو شئنا أن نعبر عن هذه الصفة بلغة هيجلية، لقلنا إن التفكير الفلسفي يمثل نوعا من «الاغتراب»، وإن الفيلسوف النظري إنسان مغترب؛ لأنه يمارس نشاطا ناقصا مشوها مقتلعا من جذوره، وإن حياة التأمل الفلسفي - تلك الحياة التي رأى فيها أرسطو أكمل غاية يستطيع أن يحققها الإنسان - إنما هي حياة غير طبيعية، مقتطعة من سياقها.
فالفيلسوف النظري يتخذ موقفا غير مكتمل العناصر، ويحيا بأفكاره وفي أفكاره ولأفكاره، ناسيا أن حوله عالما كاملا يدعوه إلى تطبيق هذه الأفكار عليه، وإلى تجاوز حالة «الاغتراب» التي يعيش فيها بأن يكون إنسانا متكاملا لا إنسانا «نظريا» فحسب، ولن يكون هذا التجاوز إلا بإعادة الفلسفة إلى سياقها الطبيعي الذي تكون فيه أداة لحل المشكلات الفعلية للإنسان والمجتمع.
مصير الفلسفة بين اليمين واليسار
والآن - وبعد أن رسمنا تلك الصورة المجملة للعناصر الرئيسية في التقابل بين الطريقة اليمينية والطريقة اليسارية في التفكير الفلسفي - فما زالت أمامنا مسألة على أعظم جانب من الأهمية، هي أن نحاول استخلاص ما يترتب على هذا التقابل من نتائج بالنسبة إلى مصير الفلسفة في المستقبل.
والأمر الذي يبدو بكل وضوح هو أن الفلسفة تقف اليوم في مفترق للطرق، يتعين عليها فيه أن تقوم بعملية اختيار حاسمة، فإذا شاءت أن تحتفظ بكيانها المستقل، فعليها أن تتمسك بوجهة النظر اليمينية التقليدية.
ذلك أن الكثيرين يعتقدون أن قضية الفلسفة مرتبطة باليمين ارتباطا وثيقا، وأن مصيرها متوقف عليه؛ ففي اليمين - كما رأينا من قبل - نجد المذاهب المتشعبة المتعددة، ونجد ازدهارا حقيقيا للفكر الفلسفي، وتنوعا غنيا لكل جوانبه، وفي المذاهب اليمينية تبلغ اللغة الفلسفية أقصى درجات الدقة، وتصل إلى أعماق تعجز قطعا عن بلوغها في أي مذهب يساري، وعند الفلاسفة اليمينيين وحدهم يكون للفلسفة كيانها المستقل، بحيث يبدو بحق أن استمرار الفلسفة - بوصفها مبحثا قائما بذاته - متوقف على استمرار الطريقة اليمينية التقليدية في التفلسف.
ومع ذلك، فالفلسفة اليمينية لا تحقق شيئا، ولا ترتبط بالمشكلات الحقيقية التي تواجهها الجموع الكبيرة من البشر في حياتها الفعلية، ولا تسهم بأي دور في تحقيق رغبة الإنسان الدائمة في تغيير المجتمع المحيط به، والثورة على أي وضع ظالم يجد نفسه فيه.
ومن المؤكد أن المذاهب اليسارية هي وحدها التي تتصدى لتحقيق هذه الغاية، وتأخذ على عاتقها مهمة استخدام الفلسفة أداة تساعد الإنسان على فهم السياق التاريخي والاجتماعي الذي يعيش فيه، وبالتالي على تغيير أوضاع حياته وتحقيق المزيد من التقدم فيها.
نامعلوم صفحہ