آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
اصناف
وعلى ذلك فإن بحثنا في قيم التخلف وقيم التقدم لا بد أن يتشعب إلى فرعين: أحدهما يتناول المقارنة بين أنواع متقابلة من القيم، والآخر يقارن بين معان ووجهات نظر مختلفة لقيم واحدة.
ومن المحال أن يتسع المجال في هذا المقال لبحث شامل أو قريب من الشمول لموضوع عظيم الاتساع كهذا، ومن هنا كان علينا أن نكتفي بتناول نماذج من القيم الرئيسية، نستطيع أن نستخلص منها بوضوح تلك الصفات المميزة للنظرة الراجعة إلى الوراء، وللنظرة المتطلعة إلى الأمام، وأن ندرك بالتالي طبيعة القيم التي قدر لها الزوال، وتلك التي سيكتب لها البقاء.
القيم الفردية، والقيم الجماعية
لا جدال في أن جزءا كبيرا من الصراع الفكري الذي يدور اليوم بين قوى التقدم والتخلف، يتركز في التعارض بين القيم الفردية والقيم الجماعية، وكثيرا ما يتخذ أنصار الفردية أسلوب المدافعين عن الكرامة الإنسانية وعن حرمة الشخصية البشرية، وهم في ذلك يقتربون كل القرب من موقف ذلك الفارس النبيل الذي أشرنا إليه في مستهل هذا المقال - أعني «دون كيخوته» - في تعلقه الإنساني المخلص بقيم فات أوانها وانقضى عهدها إلى غير رجعة.
وذلك لأن الفرد - من أية زاوية تتأمله منها - لا يمكن أن يكون ذرة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ - على حد تعبير الفيلسوف الألماني المشهور ليبنتس - وإنما هو ملتقى طرق طولية وعرضية لا حصر لها ولا عدد، إنه أشبه بالنقطة الهندسية التي لا تعرف بذاتها، وإنما تعرف بأنها موضع التقاء خطين أو أكثر، ولا تفهم إلا من حيث هي موضع التقاء فحسب، ولقد دارت مناقشات طويلة حول معنى الفردية وإمكانها من الوجهة الفلسفية، ولست أهدف هنا إلى إضافة أي جديد إلى هذه المناقشات التي أصبحت عناصرها الأساسية مألوفة لكل مثقف، وإنما أود أن أتناول المشكلة من حيث علاقتها بالقيم الأخلاقية، أي في صلتها بالموضوع الرئيسي لهذا المقال.
إن المبالغة في تأكيد قيمة الفردية يؤدي - سواء شاء المرء أم لم يشأ - إلى نوع من التغليب للروح الأنانية؛ ذلك لأن هناك أنواعا أساسية من الكفاح لا يمكن أن تتم على المستوى الفردي على الإطلاق، وإذا قام بها أفراد منعزلون فإن النتيجة تكون دائما إخفاقا وشعورا مريرا بخيبة الأمل؛ فالكفاح الأساسي ضد الاستغلال والاستعباد بشتى أنواعه (وأقول إنه أساسي لأنه هو وحده الذي يمهد الطريق لجميع مظاهر التحرر الأخرى) ينبغي أن يتم على مستوى التضامن الجماعي، إن شئنا أن يتحقق له أي قدر من النجاح، وعلى ذلك فإن إنكار قيم التضامن هذه يؤدي - ولو بطريق غير مباشر - إلى تأكيد حالة الاستعباد، وتأخير لحظة التحرر بالنسبة إلى المجتمع وإلى الفرد ذاته.
ولقد كان المقابل الاقتصادي لمبدأ الفردية هو تأكيد دافع الربح؛ ففي الحضارة الرأسمالية تسير الفكرتان جنبا إلى جنب، بحيث يؤكد المفكرون والأدباء من جهة قيمة الفردية، ويقوم الاقتصاد من جهة أخرى على مبدأ تشجيع حافز الربح في الأفراد إلى أقصى مدى ممكن، ولقد أصبح من الشائع في هذه الحضارة أن ينظر إلى قيمة الفردية ومبدأ الربح على أنهما وجهان - أحدهما أخلاقي والآخر اقتصادي - لحقيقة واحدة، ومع ذلك فلا جدال - في رأيي - أن هناك تناقضا صارخا بين هذين المبدأين، حتى إن تأكيد أحدهما يؤدي حتما إلى القضاء على الآخر.
ولكي نكشف هذا التناقض، علينا أن نتساءل: ما الذي يعنيه تأكيد دافع الربح في المجتمع الرأسمالي؟ إنه يعني اعتقادا ضمنيا بأن أقوى الدوافع المسيطرة على الفرد هو تحقيق منفعته الذاتية، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، إنه ينطوي على اعتراف صريح بأن الإنسان أناني بطبعه، وبأن الاعتبارات المعنوية أو الأخلاقية لا يمكنها أن تكون حافزا كافيا لجهد الإنسان ونشاطه، على حين أن الاعتبارات المادية هي الأقدر على أن تحفزه إلى الفعل وبذل المجهود ... ولسنا الآن بسبيل مناقشة مدى صحة هذه النظرة إلى طبيعة الإنسان (وهي النظرة التي يراها البعض تعبيرا صريحا عن «الواقع المؤسف»، ويؤكد البعض الآخر أنها ليست صحيحة على الإطلاق، وإنما هي وليدة أوضاع وعلاقات معينة ظلت سائدة في المجتمع البشري حتى اليوم، وليس هناك ما يمنع من تغييرها جذريا في المستقبل) وإنما الذي يعنينا من هذا هو التناقض الصارخ الذي تكشف عنه هذه النظرة، بين الأساس الاقتصادي والبناء المعنوي أو الأخلاقي للحضارة الرأسمالية التي تسود فيها؛ ذلك لأن محور الدعوة الأخلاقية في المجتمع الرأسمالي هو تأكيد كرامة الفرد، وفلسفة هذا المجتمع ودعايته تنصب على تأكيد أن الحضارة الأخرى - أعني الحضارة الاشتراكية في شتى مظاهرها - تقضي على الكرامة الفردية وتجعل من الأفراد «أرقاما» في مجتمع من «النمل والنحل»، والأهم من ذلك أن المجتمع الرأسمالي نفسه هو الذي يطالب لنفسه بحق الدفاع عن القيم الروحية، ويتهم المجتمع المقابل له بتأكيد المادية واتخاذها محورا لنشاط الإنسان في كل الميادين.
وهنا يظهر لأعيننا بكل وضوح مدى التناقض في بناء عالم القيم في المجتمع الرأسمالي؛ ذلك لأن هذا البناء يرتكز على مبدأ اقتصادي يفترض ضمنا أن غاية الإنسان الكبرى هي تحقيق الربح والمصلحة الذاتية، وهي غاية مادية صرف، ولكن واجهة البناء تتخذ شكلا روحيا رفيعا، ينصب فيه المفكرون أنفسهم مدافعين عن كرامة الإنسان وجدارته، وعلى حين أن الأساس الذي ترتكز عليه هذه الحضارة هو المادية في أوضح وأصرح صورها، فإن المحور الذي تدور حوله الدعوات الفكرية والمذاهب الفلسفية فيها هو الروحانية في أرفع مظاهرها، ومثل هذا التناقض الصارخ علامة من علامات الانهيار؛ إذ إن الفكر الواعي لا بد أن يتنبه إليه، ويعمل على إزالته، وهذا لا يكون إلا بتغيير حاسم لبناء القيم من أساسه.
ولا يقتصر تطبيق مبدأ «حافز الربح» هذا على العلاقات بين الأفراد فحسب، بل إن المجتمع الرأسمالي يطبقه على العلاقات بين الدول وبين الأجيال أيضا؛ فالاستعمار هو بهذا المعنى تطبيق مباشر لهذا المبدأ على مستوى الدول؛ إذ إن نفس العلاقات التي تربط بين صاحب العمل وبين العامل من جهة - في ظل مبدأ حافز الربح - هي التي تربط بين الدولة الاستعمارية وبين مستعمراتها من جهة أخرى، وكما أن من غير الطبيعي من وجهة النظر الإنسانية أن يصبح الفرد الواحد من أصحاب الملايين على حساب شقاء الألوف من العاملين، فإن من غير الطبيعي أيضا أن تصبح الدولة الواحدة خيالية الثراء على حساب شقاء عشرات الدول المنتجة الأخرى، ولا بد - في هذه الحالة الأخيرة - من أن ينسب هذا التفاوت بين ثروات الدول إلى أوضاع غير طبيعية في علاقاتها، وهي أوضاع تخضع بدورها لمبدأ «حافز الربح» وتعبر عن فكرة الاستغلال أوضح تعبير، وهنا أيضا نجد تناقضا بين الأساس المادي الصريح لهذا النوع من العلاقات الدولية، وبين الواجهة الظاهرية لبناء القيم المعبرة عن هذه العلاقات، حيث يشيع الحديث عن «الإخاء»، و«التضامن»، و«التحالف من أجل التقدم» وكلها تركيبات معنوية زائفة تتناقض مع الدعامات الفعلية التي ترتكز عليها، ولا بد للتخلص من هذا التناقض من تغيير بناء القيم بأسره.
نامعلوم صفحہ