آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
اصناف
والحق أن مشكلة ازدياد الهوة اتساعا بين العالم المتخلف - بوجه عام - وبين العالم المتقدم منظورا إليه بأوسع معانيه، هذه المشكلة لا بد أن تؤرق كل من يفكر باستبصار في مستقبل العلاقات بين هذين العالمين؛ ذلك لأن معدل النهوض - في البلاد التي تقدمت بالفعل - يزداد سرعة، ويبدو أن ازدياد السرعة هذا يؤدي بذاته إلى الجمود أو التوقف في البلاد المتخلفة؛ لأن بطء معدل نموها - إذا حدث مثل هذا النمو - يجعلها تبدو أشبه براكب الدراجة الذي يبدو متراجعا إلى الوراء حين يمرق بجانبه قطار سريع، ومن العبث أن نعزي أنفسنا بأن تقدم الغرب تكنولوجي فحسب، وبأننا نستطيع أن نتفوق عليه في ميدان الثقافة؛ ذلك لأن التكنولوجيا تخلق لنفسها ثقافتها الخاصة، وهي ثقافة ما زلنا بعيدين عنها بعدا كبيرا، ومن الخطأ الفادح أن نتصور أن النهضة التكنولوجية لا ترتبط بنهضة ثقافية، بل إن كل الظواهر تدل على أن النجاح التكنولوجي قد أسدى إلى الثقافة خدمات هائلة، وأن هناك ازدهارا ثقافيا وتنوعا وتعددا وتخصصا وتعمقا لا يقل في أهميته عما نجده - مثلا - في تكنولوجيا الفضاء. أما العزاء الآخر الذي نقدمه إلى أنفسنا بين الحين والحين، وهو أن الغرب سائر إلى الانهيار لتحل حضارات أخرى محله، فهو عزاء واهم إذا صدر عن أناس لم يبذلوا أدنى جهد لمغالبة الغرب والتفوق عليه، ولن يكون له ما يبرره إلا عند الشعوب التي أثبتت بالفعل قدرتها على الكفاح والصمود والبناء في ميادين التنظيم الاجتماعي كما في ميادين التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي.
والحق أنه لمما يبعث على القلق حقا أن نرى مدى اتساع الهوة بيننا وبين الثقافات العالمية المتقدمة، ثم نكتفي بالقول إننا أخذنا ما فيه الكفاية، وإن دور النقل انتهى وحان وقت اتخاذ المواقف المستقلة؛ فبأي مقياس يقال إننا نقلنا عن ثقافة الغرب ما فيه الكفاية؟ هل نحن حقا قد استوعبنا هذه الثقافة حتى نستطيع أن نقف منها موقف الند للند؟ إن الإجابة بالإيجاب ترضي كبرياءنا وتشعرنا بالاطمئنان، ولكن هذا لن يكون إلا رضاء أجوف واطمئنانا زائفا، وإن نظرة واحدة إلى الأجيال الجديدة من دارسينا لتقنعنا بأن قدرة هذه الأجيال على استيعاب الثقافات العالمية الجادة تتضاءل دوما (وذلك لأسباب قد يكون معظمها خارجا عن إرادتها)، ويزداد كل يوم الاتجاه إلى الاكتفاء من هذه الثقافات بالقشور، والاعتماد على ترجمات ركيكة معيبة غير علمية، تعد هي الزاد الأكبر لدى نسبة كبيرة ممن نعتمد عليهم في النهوض بثقافتنا في المستقبل، وما زالت أمهات الكتب الثقافية العالمية غير معروفة لدى جماهير القراء؛ لأننا لم ننقلها بعد إلى لغتنا نقلا أمينا، ولم نعمل على وضعها في متناول أيدي طالبي الثقافة بشروط ميسرة، فكيف يقال بعد ذلك إننا نقلنا وشبعنا، وحان وقت الهضم والاستيعاب والتمثل والبناء الجديد؟
إن رأيا كهذا يلقى استجابة وترحيبا بمجرد أن يصدر، ولكن هذه الاستجابة الفورية يمكن أن تكون عائقا في وجه الإدراك الصحيح للحقائق، وهي أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاستيعاب الكامل للثقافة العالمية، وأن هناك أوضاعا قد تؤدي إلى زيادة الإقلال من قدرتنا على فهم هذه الثقافة، فإذا اقترن هذا العجز المتزايد بشعور بالرضا عن الذات؛ كانت حصيلة الجمع بينهما وضعا خطيرا بحق، نكون فيه بعيدين على نحو متزايد عن المستوى العالمي، ونتصور أننا وصلنا إليه وتجاوزناه، ومن هنا فإن الواجب الأكبر الذي يقع على عاتق المثقفين في بلادنا في الوقت الراهن ليس - في رأيي - أن يبعثوا في الناس أحاسيس الرضا عن الذات، بل أن يثيروا فيهم القلق والرغبة في تجاوز أوضاعهم الراهنة، ومن أهم عناصر هذا القلق أن يدركوا اتساع الهوة بينهم وبين المجتمعات المتقدمة ثقافيا وعلميا وتكنولوجيا، وإني لأعتقد اعتقادا راسخا بأن أول خطوة في سبيل عبور هذه الهوة، وتضييق شقة التخلف، أن نكون في البداية على وعي بمدى اتساعها، وأن نعمل جادين على فهم أسباب تقدم الآخرين لكي نتمكن من اللحاق بهم ثم التفوق عليهم.
على أن الكلام عن «ثقافة عالمية» لا بد أن يصطدم برأي شائع يؤكد أن الحضارة الأوروبية - في جانبيها المادي والمعنوي - ذات طابع محلي، وأن ما أنجزته لا يصلح إلا للمجتمعات التي خلقت هذه الحضارة فحسب، والواقع أن المبالغة في تأكيد الطابع المحلي للثقافة الأوروبية - بل حتى للعلم والتكنولوجيا الأوروبية - تنطوي في رأينا على أخطار لا يستهان بها؛ ذلك لأنها تعني المبالغة في تقسيم البشر إلى أنماط يعد كل منها مقفلا على نفسه، وتغفل الطابع الإنساني العام الذي تتسم به كل نواتج العبقرية البشرية، وصحيح أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اصطباغ الثقافات بلون محلي مستمد من الظروف الخاصة للمجتمع الذي تظهر فيه، ولكن هذه النواتج الثقافية المحلية ذاتها تنطوي - في كل الأحوال - على جانب إنساني لا يصح التغاضي عنه.
ففي ميدان النظم الاجتماعية - على سبيل المثال - لن ينكر أحد أن الإقطاع والرأسمالية في أوروبا كان لهما طابع محلي، وأن الظروف الخاصة التي عاشتها أوروبا في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث كانت هي العامل الحاسم في إعطاء هذين النظامين طابعهما المميز، ولكن هذا لن يمنع من تكرار هذين النظامين في بيئات أخرى مغايرة لتلك التي ظهر فيها الإقطاع والرأسمالية الأوروبيان؛ فمع اختلاف الصبغة المحلية يوجد اتفاق في الإطار العام بين الرأسمالية في الولايات المتحدة واليابان مثلا، ومن هنا كان مما يفيد الاشتراكيين في مختلف بلاد العالم - ولا سيما العالم الثالث - أن يدرسوا النظم الاجتماعية الأوروبية لا على سبيل زيادة العلم فحسب، بل على أساس أن أوروبا قد مرت بتجارب يمكن أن تمر بها الإنسانية كلها من بعدها، مع اختلاف في التفاصيل بطبيعة الحال.
إن عوامل الوحدة بين التجارب الإنسانية أقوى في رأيي بكثير من عوامل التباين والاختلاف، وإذا كان من المعترف به أن الإنسان يكون - من الناحية البيولوجية - نوعا واحدا يمكن فيه التزاوج والإنجاب بين أقزام الغابات الاستوائية الزنوج وعمالقة السويد الشقر، وأن مشاعر كالحب والغضب والفرح عنده واحدة، فينبغي أن نعترف أيضا بأن هذه الوحدة تكون أساسا كافيا لتشابه مماثل في التجارب البشرية الأشد تعقيدا، فحين يتخلص بلد أوروبي من عوامل الاستغلال بفضل بنائه نظاما اشتراكيا، ينبغي أن نؤمن بأن النظام الذي بناه يصلح - من حيث المبدأ - للتطبيق على بلاد أخرى تريد بدورها أن تتخلص من الاستغلال؛ إذ إن أنماط الاستغلال واحدة، وطرق التخلص منها متقاربة إلى حد بعيد. أما أن يقال مثلا إن الفلسفة الاشتراكية جزء من الحضارة الأوروبية، وإنها ظهرت في ظروف معينة وبيئة خاصة لا يمكن أن تنطبق إلا فيها وحدها، فإن هذا ينطوي على تجزئة غير مشروعة للتجربة البشرية، فضلا عما يؤدي إليه من أضرار سياسية واجتماعية للبلاد غير الأوروبية، صحيح أننا نستطيع أن نكيف التجربة مع ظروفنا المحلية كما نشاء، ولكن لا ينبغي أن ننكر المبدأ العام، وهو أن الشعوب التي سبقت غيرها من ميدان الحضارة تمر بتجارب يمكن أن تمر بها هذه الشعوب الأخرى في مستقبلها، ومن ثم فلا محل للفصل بين الشعبين بحجة أن الحضارات محلية فحسب.
وإذا كان هذا القول يصدق على ميدان السياسة والمجتمع، فهو - بلا شك - أصدق في ميدان الفنون والآداب، أو في ميدان الثقافة بوجه عام، بل إني لأومن إيمانا راسخا بأن التأثر في هذا الميدان بالذات أوضح منه في غيره بكثير، إني لا أستطيع أن أنكر أن بيتهوفن نتاج لحضارة طويلة امتدت جذورها من أيام المسيحية الأولى وربما قبل ذلك، وأن موسيقاه مرتبطة ببيئة مختلفة عن بيئتي اختلافا بينا، وأنها ظهرت في نظام اجتماعي ربما لم يكن له نظير في مجتمعي، ولكني لا أستطيع - في الوقت ذاته - أن أمنع نفسي من أن أحب بيتهوفن وأن أرى موسيقاه فنا رفيعا يخاطبني بوصفي إنسانا، ويكلمني بلغة أفهمها (لأني تعودت عليها بما فيه الكفاية ) ويبعث في مشاعر لا تختلف عن تلك التي يبعثها في أبناء حضارته، وقل مثل هذا عن كثير من الأدباء والمصورين والمفكرين الذين سما إنتاجهم حتى استطاع أن يخاطب «الإنسان» لا الفرد في هذا المجتمع أو ذاك، ولست أرى في ذلك طغيانا ولا غزوا، بل هو في رأيي إثراء للتجربة الإنسانية وتعميق لها.
على أن الكثير من مفكرينا يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة لإثراء تجربتنا - مع تخليصها من تأثير الثقافات الوافدة - هي اتخاذ التراث الماضي بديلا عن المؤثرات الحضارية الدخيلة، ويرون أن هذه الوسيلة هي الكفيلة بالقضاء على الاغتراب الثقافي الناشئ عن اندماجنا في حضارة غريبة عنا.
وأود في هذا الصدد أن أطرح سؤالا لا أهدف منه إلى التعبير عن رأيي الخاص بقدر ما أهدف إلى إثارة مشكلة قد تجد من يبحثها فيما بعد بمزيد من التفصيل: أليس من المحتمل أن يكون هناك اغتراب عن الماضي، يعادل الاغتراب عن العنصر الوافد الدخيل أو يزيد عليه؟ وبعبارة أخرى، هل يشعر المرء نحو ماضيه - إذا كان ذلك الماضي بعيدا، وإذا كانت ظروفه قد تغيرت على نحو جذري - بمزيد من الألفة بالقياس إلى ما يأتي إليه من مؤثرات، هي حقا خارجية، ولكنها تعيش معه في عصر واحد وفي ظروف متقاربة؟ أليس بعد الشقة في الماضي - بدوره - عاملا من عوامل الاغتراب؟ وهل نستطيع أن نطمئن - حين ننادي ببعث حضارة ماضية تفصلنا عنها فترات زمانية واختلافات هائلة - إلى أننا قد تخلصنا حقا من الاغتراب عن أنفسنا؟
إن «الاغتراب عن الماضي» فكرة لا أعتقد أنها تلقى ترحيبا من الكثيرين، ومع ذلك فإني أطرحها آملا أن تبحث بمزيد من العناية، وكل ما أود أن أقوم به الآن هو أن أثير الموضوع فحسب، ولعل أبعاد المشكلة تظهر بمزيد من الوضوح إذا تأملناها في ضوء الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وهي ظروف تختلف اختلافا جذريا عما كان عليه الإنسان في أي عصر مضى.
نامعلوم صفحہ