آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
اصناف
على أن العصور الرومانتيكية قد أثارت ما يمكن أن يسمى بأزمة للعقل، حين تمادت في العاطفية والانفعالية إلى حد اعتبار العقل ملكة انقطعت صلاتها بالمنابع الفياضة للنفس الإنسانية، وعملت على محاربة كل فكر منهجي ومنطقي بقدر من العنف وصل إلى حد الخصومة المرضية، وظهرت لدى أصحاب الأمزجة الرومانتيكية مجموعة كاملة من المبادئ التي ترتد في النهاية إلى العاطفة أو الانفعال، وتشترك كلها في التنديد بالعقل أو تأكيد قصوره، منها مبدأ الإرادة عند شوبنهور، أو إرادة القوة عند نيتشه، أو الحياة عند دلتاي، أو الحدس عند برجسون، في كل هذه الحالات يؤكد الفكر أن لدى الإنسان قوة أخرى تعلو على منطق العقل، وتنفذ إلى لب الأشياء أو جوهرها الباطن، على عكس العقل الذي لا يصل إلا إلى العلاقات الخارجية بين الظواهر فحسب. (ب)
أما المقابل الرئيسي الثاني للعقل، فهو السلطة، وإذا كان التقابل بين العقل والعاطفة (بأشكالها المختلفة واشتقاقاتها المتعددة) ينصب على «المضمون»، فإن التقابل بين العقل والسلطة ينصب على «الطريقة أو المنهج»؛ ذلك لأن التفكير على أساس السلطة لا يتعين أن يؤدي - بالضرورة - إلى نتائج مخالفة لتلك التي ينتهي إليها التفكير العقلي، بل قد يكون المضمون الفكري واحدا في الحالتين، ولكن طريقة التفكير أو منهجه هي التي تختلف؛ ففي حالة اتباع السلطة يكون التفكير خاضعا لمصدر يعلو عليه، ويقبل أحكامه بلا مناقشة، على حين أن التفكير المرتكز على العقل يعتمد على الموارد الإنسانية وحدها، ويؤمن بأن كل ما يصدر نتيجة لجهود الإنسان الخاصة يسري عليه كل ما يسري على الإنسان ذاته من قابلية التغير والتطور والتعديل الصحيح، وبينما يؤدي اتباع منهج الخضوع للسلطة إلى التحجر والجمود، فإن الارتكان إلى العقل يعني المرونة والتفتح واتساع الأفق.
وللسلطة - كما نعلم جميعا - أشكال متعددة؛ فهناك سلطة الأسرة أو القبيلة أو المجتمع، وحين يرتكز الفكر على واحدة من هذه السلطات يكون معنى ذلك كبت حرية العقل الفردي في فهم الأمور على أساس تقديره لها وحكمه الخاص عليها. على أن أشهر مظاهر السلطة هو - بلا جدال - سلطة الوحي الديني، ولقد آثرت أن أتحدث عن الوحي الديني بوصفه السلطة الحقيقية المقابلة للعقل، بدلا من الحديث عن الإيمان، على الرغم من أن التقابل بين العقل والإيمان كان له تاريخه الطويل منذ العصور الوسطى حتى أيامنا هذه؛ ذلك لأن الإيمان - في ذاته - لا يمثل بالضرورة قوة مضادة للعقل، أو حتى مخالفة له، وإنما هو قبل كل شيء طاقة انفعالية يمكن توجيهها في أي اتجاه نشاء؛ فمن الممكن أن يوجه العالم المتحمس لكشفه الجديد طاقة الإيمان لديه في الدفاع عن هذا الكشف والدعوة إليه، على الرغم من أن الكشف كان مرتكزا على أسس عقلية بحتة، وبذلك يمكن القول إن الإيمان - في معناه العام - قوة محايدة إزاء العقل، أما القوة التي تمثل التضاد الحقيقي فهي الوحي الديني، بوصفه مصدرا للسلطة يرى الكثيرون أنه ينافس العقل ويتفوق عليه؛ لأن السلطة في هذه الحالة إلهية تعلو على ضعف العقل الإنساني وقصوره. (ج)
أما المقابل الرئيسي الأخير للعقل فهو الأسطورة، التي كانت في العصور البدائية هي البديل الوحيد للعقل، نظرا إلى ضعف الإمكانات الفكرية للإنسان، ولكنها وجدت في العصور الحديثة ذاتها أنصارا يضعونها في مقابل العقل بوصفها تعبيرا رمزيا عن القوى الحيوية التي يباعد العقل بين الإنسان الحديث وبينها بما يفرضه عليه من كبت وقهر، ويمكن القول إن بعض جوانب نظرية التحليل النفسي - وخاصة ما يتعلق منها بالدلالة الرمزية للأحلام، وبالتضاد بين الشعور واللاشعور - تهيب مرة أخرى بقوة الأسطورة اللاواعية في مقابل العقل الواعي، هذا فضلا عن أن عددا لا يستهان به من المذاهب الفنية الحديثة - في التصوير والمسرح والنحت والأدب - قد تأثرت بهذا الجانب من نظرية التحليل النفسي، وهاجمت العقل الشعوري المنظم سعيا إلى استكشاف الأغوار الخفية للنفس البشرية في عالم الأسطورة الرمزية اللاشعورية.
يكفينا إذن - بالنسبة إلى أغراض هذا المقال - أن نشير إلى أن العقل قوة بشرية توضع في مقابل الانفعال أو العاطفة، وهي قوة مضادة للسلطة بشتى مظاهرها، تسعى إلى التخلص من كل آثار التفكير الأسطوري، ويكفي أن نشير إلى أن العقل يعاني أزمة في كل حالة يسعى فيها الإنسان إلى الدفاع عن إحدى هذه القوى المضادة وتغليبها عليه.
على أن هذا التحديد لمعنى العقل لن يكتمل إلا إذا أشرنا إلى بعد آخر للعقل لم يظهر بوضوح من خلال العرض السابق؛ ذلك لأن العقل كان يبدو لنا - في كل ما سبق - قوة للمعرفة أو العلم فحسب، ولكن للعقل جانبا عمليا أو جانبا أخلاقيا واجتماعيا لا يصح تجاهله؛ فمنذ أيام اليونانيين كان العقل مرتبطا بالتناسب الصحيح وبالعدل ، وفي أوروبا الحديثة كانت العقلانية فلسفة تنادي بإقرار العدل في نفس الوقت الذي تنادي فيه بتحقيق سيادة الإنسان على الطبيعة وإعلان حكم العقل في العالم.
ولو رجعنا إلى الأصول اللغوية لما وجدنا عناء في الاهتداء إلى الجوانب العملية في معاني كلمة العقل، بالإضافة إلى جوانبها النظرية؛ فالحقيقة (وهي الهدف النظري الرئيسي لكل تفكير عقلي) ترتبط لغويا بالحق ، أي بالمبدأ الأخلاقي الذي يدافع عنه الإنسان، وفي اللغات الأجنبية يظهر هذا الارتباط نفسه؛ ففي الفرنسية مثلا نستخدم كلمة
raison (العقل) للتعبير عن الحق أو المبرر، كما في قولنا:
il a raison (أي إن له حقا أو لموقفه ما يبرره)، ولفظ الفهم مرتبط بالتفاهم (عقليا واجتماعيا) في العربية وفي الإنجليزية
understanding
نامعلوم صفحہ