فهو يعتقد أن الطريقة لفهم الأشياء والحياة إنما هي الانتقال من المركب إلى البسيط ومن العام إلى الخاص، وإذن فهو في طريقته فيلسوف قبل كل شيء، يريد أن يفهم شيئا من الأشياء فهو لا يعتمد في فهم هذا الشيء إلا على الحس يرى أو يسمع أو يلمس، والنظر والسمع واللمس ينقل إلى عقله صورا، وعقله يعمل في هذه الصور فيجردها ويستخرج هذه الأشياء المحسوسة؛ وهو إذن من أنصار مذهب الحس، والمتأثرين بالفلسفة الإنجليزية الحديثة ومذهب لوك خاصة، وهو معرض عما بعد الطبيعة لا يرى للإنسان وسيلة إلى العلم إلا بالحس، هو لا يؤمن بما بعد الطبيعة، ولكنه لا يجحده وإنما يقول لا أراه فلا أعرفه؛ من الممكن أن يكون ما بعد الطبيعة موجودا ولكن لا سبيل إلى الحس به، وهذا رأيه في الإله؛ فهو يقول: من الممكن أن يكون الإله موجودا وأن يكون لهذا الكون خالق، ولكني لا أراه فلا سبيل إلى أن أعرفه، فأنا لا أعرف الله معرفة علمية، ولكني لا أجحده جحودا علميا؛ فالإله شيء قد يكون موجودا وقد لا يكون موجودا.
فإذا انتقل إلى دراسة الإنسان فرأيه في الإنسان رديء؛ هو يعتقد أننا إذا درسنا نفس الإنسان وجدناها تنحل إلى شيئين اثنين: الإنسان قبل كل شيء حيوان متوحش، وهو بطبيعته كغيره من الحيوانات الضارية المفترسة تهذبه الحضارة شيئا فشيئا، وما زالت به تهذبه وترققه حتى أخفت غرائزه هذه المنكرة، فالإنسان بحياته أو بصورته الطبيعية شرير والحضارة أخفت غريزة الشر فيه وجعلته مثقفا إلى حد ما، فإذا عرض لهذه الحضارة ما يزيلها أو يقف تأثيرها، ظهر الإنسان على شكله الأول مفترسا ضاريا، وعاد إلى حياة الطبيعة حياة الإثم والإجرام، والإنسان بعد هذا مجنون وعقله ليس إلا تكلفا الأصل فيه أنه لا يستطيع أن يفكر ولا أن يستنبط شيئا، ولا أن يستخرج حقيقة علمية من الأشياء المحسوسة، إنما هذا شيء اكتسبه من الحضارة، وهو مع هذا لم يكتسب منه إلا شيئا قليلا، فالإنسان إذا فكر فإنما يفكر في أقل أوقاته، أما في أكثر أوقاته فإنه يرسل نفسه إرسالا، يتخيل أكثر مما يعقل، وهو إذا تخيل يمضي نحو الجنون أكثر مما يمضي نحو العقل، وهو إذن يحتقر الإنسان، وما دام هو مؤمنا بالجبر منكرا للإرادة مؤمنا بأن الإنسان شرير بطبعه، وأن عقل الإنسان شيء مكتسب؛ فهو غير متفائل بالحياة، وهو ساخط منكر للناس منكر لحياتهم على اختلافها، وهو في حياته اليومية العملية متأثر بمذهبه الفلسفي؛ فهو مبغض للجماعات مؤثر للعزلة ما وجد إليها سبيلا، لا يتصل بالأندية ولا يختلف إليها إلا كارها، فإذا لم يكن له بد من أن يلقى الناس فهو يلقى جماعات قليلة يختارهم ويصطفيهم من الذين يستطيع أن يتحدث إليهم في العلم والأدب والفلسفة.
بعد أن تتصوروا فلسفة «تين» على هذا النحو الذي لخصته لكم تلخيصا ضئيلا جدا يكاد يفسد هذه الفلسفة، تستطيعون أن تلاحظوا أن إنتاجه الأدبي قد يكون عميقا حقا، مؤثرا في العقل وفي الناحية المفكرة، ولكنه لن يكون من هذا الأدب الرائع الذي يسحر ويفتن القلب ويستأثر بالعقل والشعور، فتين لا يريد أن يتحدث لا إلى القلب ولا إلى الشعور ولا إلى العاطفة وإنما يريد أن يتحدث إلى العقل.
والغريب أنه مع هذا التضييق الذي فرضه على نفسه قد استطاع أن ينتج آثارا أدبية خالدة، ولا شك أن آثاره ستكون أخلد من آثار صديقه وزميله رينان.
أهم نظرية أدبية لتين اعتمد عليها في جميع دراساته الأدبية هي النظرية المشهورة، نظرية تأثر الأديب بما يحيط به من هذه العناصر الثلاثة التي يرى تين أن دراستها هي الدراسة الطبيعية لكل أديب، وهي جنسية الأديب وإقليمه أو بيئته والعصر الذي يعيش فيه، فليس من سبيل أن نفهم شاعرا أو فيلسوفا أو إنسانا منتجا إلا إذا عرفت هذه العناصر الثلاثة. يجب أن تعرف الجنس أو الأمة أو الجيل الذي نشأ فيه هذا الشاعر أو ذلك الفيلسوف على أنه شخص في هذا الجنس أو الأمة أو الجيل، ثم ما لهذا الجنس من التأثير في هذا الشاعر أو الفيلسوف، ثم يجب أن تعرف الإقليم والظروف الطبيعية والاجتماعية التي تحيط به، ثم يجب أن تعرف العصر الذي يعيش فيه، وما يؤثر فيه من المؤثرات المباشرة المعاصرة أو القديمة التي جاءته من التاريخ، ومن كل هذه المؤثرات التي يتأثر بها أي عصر، وتتأثر بها الإنسانية بوجه عام، وإذن فالذين كانوا يدرسون الأديب من حيث هو فرد لم يكونوا يوفقون في دراستهم، والذين يدرسون الأديب من حيث هو منتج لم يكونوا يوفقون في دراستهم، إنما كانوا يقتطعون الأديب اقتطاعا من أمته أو من عصره، وما دام تين مؤمنا بأن الحياة الإنسانية كغيرها خاضعة لقوانين العلم، فليس من سبيل إلى دراسة الفرد من حيث هو فرد، ولا سبيل إلى أن يدرس على أنه فرد، والفرد جزء من أمة، والأمة جزء من جنس، والأمة متأثرة بالإقليم، متأثرة بالزمان، متأثرة بكل ما يتصل بها من مظاهر الكون والحياة، وعلى هذا النحو كانت دراسة تين الأدبية للشعراء ليست دراسة للأفراد بل هي دراسة أمم، ودراسة جيل من الأجيال، وهو من هذه الناحية كان خصبا حقا، ويكفي أن تأخذوا أي كتاب من كتب تين وتقرءوه فستجدونه ممتعا غنيا بالخواطر والآراء والنظرات البعيدة، خذوا كتابه عن لافونتين فستجدون فيه دراسة ممتعة متقنة كل الإتقان للحياة الفرنسية في عصر هذا الشاعر، خذوا درسه لأي أديب من الأدباء الآخرين فستجدون درسه درسا لعصر الأديب ولبيئته، وستجدونه قد طبق هذه النظرية أحسن تطبيق ممكن، عندما أراد أن يدرس تاريخ الأدب الإنجليزي - وهو قد درس تاريخ الأدب الإنجليزي ليبين صحة هذه النظرية التي أجملتها لكم إجمالا - أراد أن يختار حياة أدبية كاملة وأن يخضع هذه الحياة الأدبية للدرس العلمي الخالص الذي لا يتأثر لا بالأهواء ولا بالعواطف ولا بهذه المؤثرات التي قد تفسد على الإنسان تفكيره.
وهذه العناصر التي تكون الحياة الأدبية توجد عند أمم ثلاث: اليونانية القديمة، والأمة الفرنسية، والأمة الإنجليزية، فلم يرد تين أن يدرس اليونانية لأنها بعيدة جدا، وهو لا يستطيع أن يدرسها إلا درس المؤرخ، وهو في حاجة إلى أن يدرسها دراسة مباشرة، ولم يرد أن يدرس تاريخ الأدب الفرنسي لأنه فرنسي وقد يتأثر بعواطفه وميوله؛ فآثر الأدب الإنجليزي؛ لأنه أدب عصري ولأنه أدب كامل - كما يقول - لا يخضع في درسه لميوله ولا لشيء من هذه الأشياء، فوضع في هذا الأدب كتابه وأخضع هذا الدرس لهذه النظرية: نظرية التأثر بالجنس والبيئة والعصر، ظهر كتابه في تاريخ الأدب الإنجليزي في مجلدات أربعة، فإذا هو إلى الآن أحسن كتاب وضع في تاريخ الآداب الإنجليزية، وهو من الكتب التي يعتمد عليها الإنجليز أنفسهم.
خذوا من هذا الكتاب أي فصل من الفصول، خذوا بحثه عن شكسبير أو غيره من الأدباء الإنجليز المعاصرين وغير المعاصرين، فستجدون درسه درسا للحياة الإنجليزية في الوقت الذي عاش فيه الكاتب أو الشاعر الذي يدرسه، من هذه الناحية كانت الدراسات الأدبية لتين غنية حقا، ولكنها من ناحية أخرى خاطئة جدا؛ ذلك أن تين يقيم نظريته هذه قبل كل شيء على فكرة ليست صحيحة على كل حال، هي فكرة شائعة عصرية نشأت مع القرن الماضي ولا يزال الناس يؤمنون بها إلى الآن، وأظنها تدرس في المدارس والجامعات وفي جامعتنا نحن.
وهي فكرة أن الآداب هي صورة للجماعات، وأن الآثار الأدبية صورة دقيقة أو مقاربة لحياة الجماعات التي تنشأ فيها، وما دام كل أثر أدبي مرآة لحياة الجماعات التي نشأ فيها فلا سبيل إلى أن يدرس هذا الأثر الأدبي إلا من حيث هو مصور للجماعة، وإذن لافونتين لا ينبغي أن يدرس من حيث هو لافونتين، إنما من حيث هو مرآة للعصر الذي نشأ فيه، وأي شاعر من الشعراء لا ينبغي أن يدرس من حيث هو، بل من حيث هو يصور العصر الذي عاش فيه، هذه هي الفكرة التي فتن الناس بها في القرن الماضي، فكرة قد يكون بها شيء من الحق ولكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون الحق كله، فأي أدب يمكن أن نعتبره مرآة للحياة الاجتماعية أو البيئة التي نشأ فيها: أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات الوسطى؟ أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات الدنيا؟ أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات العليا؟
وأنا عندما أذكر الطبقات لا أريد الطبقات الاجتماعية، إنما أريد الطبقات العقلية؛ فأنتم تعلمون أن هناك أرستقراطية فنية، فهناك أشخاص ممتازون بطبيعتهم في الشعر والفكر عن معاصريهم في الحس والشعور والتفكير، خذوا فيلسوفا من الممتازين في أي عصر من العصور فما الذي تجدونه أو يفاجئكم؟ هو قبل كل شيء أن هذا الفيلسوف أو الشاعر أو الأديب مخالف لمعاصريه لا يعيش كما يعيشون، هو يفكر لا كما يفكر معاصروه، إنما يفكر كما سيفكر الناس بعد جيل أو جيلين أو أجيال، خذوا أبا العلاء المعري مثلا أتظنون أنه قد فهم في العصر الذي كان فيه؟ كلا، إنما كان ممقوتا لا يفهمه إلا أصدقاؤه الأخصاء، أما عامة الأدباء والفلاسفة الذين كانوا في عصره فقد كانوا يمقتونه ويكرهونه، وكان رجال الدين يشكون في إيمانه ومنهم من اتهمه بالكفر من غير تردد، ولعلكم تذكرون أنه تعرض للموت، خذوا فولتير أو جان جاك، أول ما يمتاز به فولتير أو جان جاك أنه كان مخالفا للذين كانوا يعاصرونه؛ فبينما كان فولتير يدعو إلى حرية الرأي كانت الجماعات التي تعيش مع فولتير معادية لحرية الرأي، وكان الذين يؤمنون بمذهبه في عصره قلة، ونحن الآن نؤمن بنظريات فولتير في حرية الرأي، لماذا؟ لأنه قد وجد قبلنا ووجد قبل أوانه بأكثر من قرن، وكذلك جان جاك، وكذلك أبو العلاء، فنحن الآن نفهم فلسفة أبي العلاء خيرا مما فهمها أهل عصره، خذوا من شئتم من الفلاسفة أو الأدباء الذين يستحقون هذا الاسم فستجدون أنهم يخالفون العصر الذي كانوا يعيشون فيه في الشعور والتفكير والفهم والإحساس، إنما يصورون العصر الذي سيأتي بعد عصرهم، ففولتير لا يصور بالدقة القرن الثامن عشر ولكنه يهيئ للقرن التاسع عشر، وهو لا يصور بالدقة العصر الذي عاش فيه ولكنه ينشئ ويكون الثورة الفرنسية، إذن ليس صحيحا أنك إذا درست أديبا من الأدباء أنك تلمس فيه مرآة للعصر الذي يعيش فيه، وإذن فليس صحيحا أنك إذا درست أديبا من الأدباء مضطر لأن تدرس ما يحيط بالأديب من المؤثرات؛ لأن هذا الأديب متأثر ببيئته ولكنه مؤثر فيما يحيط به أكثر من تأثره بهذه الأشياء.
إذن فنظرية الجنس والبيئة والعصر تقوم على أساس خاطئ، ومن هذه الناحية كان تين بهذه النظرية منتهيا إلى نتيجتين متناقضتين أشد التناقض؛ دراسة تاريخية خصبة ولكنها من الناحية الأدبية غير قيمة، يتخذ الأديب وسيلة لدراسة عصره فيوفق أحسن توفيق، ولكنه من ناحية أخرى يمحو شخصية الأديب محوا؛ فهو يدرس فرنسا دون لافونتين، ويدرس إنجلترا دون أن يدرس شكسبير، ويدرس أي أمة دون أن يدرس الأديب الذي أراد أن يدرسه، ومن هنا كانت الكتب التي وضعها تين في الأدب أشبه شيء بمقدمات للدراسات التي عني بها؛ لأنه يكتب كتابا في تاريخ العصر والبيئة والجنس حتى إذا فرغ ظن أنه قد درس الأديب، ولكنه لم يصل بعد إلى هذا الأديب.
نامعلوم صفحہ