العرب لم يخلفوا آثارا عظيمة كأهرام الفراعنة، ولا قلاعا وطرقا وهياكل من النوع الذي خلفه الرومان؛ ذلك لأن شريعتهم حظرت السخرة، وما أباحت إشقاء إنسان لسعادة غيره، والرقيق الذي قام بيده معظم ما نراه من مصانع الأمم البائدة، كان يعامل في الإسلام معاملة الحر برحمة وشفقة، حتى كاد المولى يعد من أهل البيت الذي استرقه، ودولة العرب لم تطل أيامها كما طالت أيام الفراعنة والعمالقة وعاد وثمود ويونان، ولو عرف الناقدون هذا، وقدروا الأمور في موازين القسط، لما وسعهم إلا الإعجاب بما تم في زمن قليل من نهضة العرب، ومن لا يقيس الأمور بمقياس الماديات لا يتحرج من الاعتراف بأن العرب تجافوا كل التجافي عن إرهاق أحد، فكانت مدنيتهم شعبية ديمقراطية بعيدة ما أمكن عن منازع الزعامات الأرستقراطية، وكان من نتائج تعاليمها، ومنها إكراه الأغنياء على إخراج زكاة أموالهم للفقراء، إذا لم ينزلوا عن جزء منها برضاهم؛ أن لم يعهد في العرب اشتراكية ولا فوضوية ولا عدمية، ولا ممولون كممولي الغرب يعملون الحرب ويعقدون الصلح، ولا احتكارات كاحتكارات الغرب في الصنائع والتجارة، ولا هذا الشقاء الذي عم وطم، وأهلك الحرث والنسل، وقصاراه إفقار جماعات وإغناء أفراد.
ربما كان من جمع الثروة في أيدي أفراد بعض الفائدة للحضارة، والحضارة ابنة الثروة والغنى؛ لأن من أهلها من يبنون القصور والمصانع الجميلة، وقد يفضل بعضهم على الأعمال العامة، ولكن هل يوازي يا ترى قتل ألوف من النفوس لإحياء نفس واحدة؟! وهل من العدل الطبيعي أن أسمن وأتخم ويهزل مئات ويجوعوا، وأن أستوفي حظي من السعادة وأسباب الهناء، ويشقى لأجلي من وراء جداري كل الشقاء؟! تعاليم العرب بعيدة عن هذه الهنات، وإن شذ عنها بعض الأغمار من أصحاب السلطان في بعض العصور اعتدادا بما لهم من القوة والجبروت، فمجموع تاريخ الإسلام كان صورة أخرى، ومعظم المصانع العربية قام بأموال الدول، أو بأيدي زعمائها وأصحاب الخير من الناس، وفيها مسحة الفردية.
المدنية العربية ما فرقت منذ كانت بين الأجناس والعناصر، فكان كل من يدخل في الإسلام، أو يعاهد أهله ويخلص لهم من أهل الملل الأخرى موفور الكرامة في الدولة، ذلك هدي الدين وليس في وسع القائمين بالأمر أن يتعدوا حدوده، بل كانت مرونتهم في تطبيق النقل على العقل أبدا، ومن حاول أن يخرج عن هذا الحد هلك فيما كان يتوهم فيه النجاة، قام في ذهن جلال الدين محمد أكبر سلطان المغول في الهند وأعظم ملوك القرن الخامس عشر أن يوحد الأديان والأجناس، فجمع لذلك مؤتمرا انتهى بالسباب والشتائم بين المؤتمرين، وفاته أنه يحاول إخراج الناس عن طبائعهم، وعن نظم الحرية الشخصية، وأعظم ما يستميت المرء في حبه دينه ولسانه، ومن المتعذر أن يعقهما الإنسان إلا بدافع لا قبل له بدفعه، أو بوازع نفسي شاذ ولا قياس على الشذوذ.
حاول أكبر إدخال التجديد في الهند ونسي على نبوغ فيه أن الإسلام مع ما بلغ من سلطانه، لم يكره أحدا على انتحاله، وأجمع أرباب العقول أن من السخف فرض الأديان على الناس، ورأينا بعض دعاة المدنية الحديثة ينوعون الأساليب لإدخال الناس في معتقدهم بطريقة من طرق الدعوة، وقلما أفلحوا على كثرة ما بذلوا وجهدوا، وهذه إسبانيا حكمت الفيليبين ثلاثمائة سنة، وما تركت في قوس الجهد منزعا لتزحزح المسلمين عن عقيدتهم؛ أغلقت جوامعهم، وحظرت اجتماعاتهم، وشردت زعماءهم، ولما استولت الولايات المتحدة الأمريكية على تلك الجزائر سهلت للمسلمين من أهلها جميع طرق الارتقاء، وأتتهم بمن علمهم أصول دينهم، فارتقوا في ظلها في ثلاثين عاما رقيا ما عرفته أمة آرية بيضاء في مائة سنة، والغالب أن لطبيعة العنصر الإسباني والعنصر الأمريكي دخلا كبيرا في ذاك التحكم البارد، وهذه الحرية المطلقة.
ما قامت دولة العرب بروح القومية، ونغمة القوميات جديدة رددت صداها الأرجاء الغربية في القرن الماضي؛ فتألفت الأمم بحسب ما ارتأت من أنظمة وضعتها لها، وعلى ما كان في الدعوة إلى القوميات من المنافسة المحمودة بين البلاد كان منها أن أدت أيضا إلى أن يكره أهل كل لسان أهل اللسان الآخر، ودينهم واحد وكتابهم واحد؛ فالأمم الأنجلوسكسونية تبغض الشعوب اللاتينية، والشعوب الجرمانية تكره الصقالبة، واللاتينية تحقد على الجرمانية والسكسونية، وهكذا رأينا في عصرنا أثر هذه الكراهة باديا على ما لم يعرف البشر أفظع منه، وها قد انقضت الخمس عشرة سنة الأخيرة، وأمم الأرض تحاول أن تنجو من غوائل الحرب التي أوقدوا نارها، فلا يجدون إلى ذلك مخرجا. وثبت للأمم أن ما دهمها من الدواهي هو من نتائج الأوهام التي تتخيلها الدول الكبرى من الاستئثار بمغانم الأرض كلها، وأن المغريات التي كان بعض من لا يهمهم إلا الظفر، ولو بإهلاك ربع البشر، كانت قانونا جائرا لا توافق الطبيعة على تطبيق مفاصله. وعجيب بعد هذا حال من يعدون السعادة كل السعادة الفوز برضى مجالس النواب، والذهاب بأماديح الصحف وصفحات التاريخ، وعجيب في هذه المدنية الحديثة أن تتمحل الأعذار للقتلة وتقدس السفاكين، وإذا نصح لهم ناصح من أهلهم عدوه غرا جاهلا، وألبوا العوام عليه فمقتوه وشردوه، أو قتلوه؛ لأنه قال الحق ولم يزل قائله من الممقوتين.
وضع الرئيس ويلسون مواده المشهورة فزيفه بعض أرباب الأهواء من الغربيين، وقالوا إنه كلام أستاذ في جامعة؛ أي إن تعاليمه نظرية غير عملية، وبعد مدة ظهر أن الحق كان في جانبه، ولكن العمل بالحق في هذه المدنية من الأمور الصعبة، ويلسون الذي تشبع بقاعدة بلاده الذهبية: أمريكا للأمريكيين، لا يرى السعادة للمدنية والإنسانية إلا أن يطبق رمزه في كل مكان؛ يريد الهند للهنود ومصر للمصريين وتونس للتونسيين، هو يقول بالرحمة فوق العدل، وعسى أن لا يكون عقل أهل القرن العشرين في هذا المعنى أحط من عقل العرب في القرن السابع.
نحن لا نتابع رأي من يقول من الغربيين اليوم إن الغرب الآن في دور سقوطه ولم يبق أمل في نهوضه، وإن أهل الطبقة الوسطى قد اضمحلوا، وإن الغرب اغتر بأن نجاحه أبدى مضمون النتائج، وأخرج الناس من عمل الأرض وأنشأ طبقات من الفقراء كانت الآلة داعي شقائها، وإن المجتمع الحديث حاول أن يبتاع كل شيء؛ ابتاع الصحافة والأفكار والنساء والرفاهية، وما استطاع أن يشتري روح الأشياء؛ ولذلك يعود الغرب إلى الهمجية، ويدخل في دور يشبه القرون الوسطى بل أحط منه، وكان ذاك الدور يفضل هذا بسذاجته وجميل فطرته، نعم، نحن لا نشايع القائلين بذلك، ونعوذ هذه المدنية أن تصيبها بائقة تأتي على الشرق والغرب معا، وهذا القرن على ما فيه من الشرور والمآثم يعيش الناس فيه عيشا طيبا لم يكتب في الدهر السالف مثله حتى لكبار الزعماء والملوك، وابن الطبقة الوسطى اليوم أنعم حالا وأهنأ عيشا من عظماء أمس؛ يتمتع ويغتبط بما لم يعهد مثله في الدهر الغابر.
يقول كاتب العصر آناتول فرانس: إن الواجب أن لا نثلب هذه الحضارة، ومن يجسر أن يفعل ذلك؟ أما أنا فأحب النور حتى ما يحرق منه، أساء رنان الظن بعقبى الأجيال القادمة، وما ظلمهم كثيرا فيما أحسب؛ فقد كان يعتقد أن الجهل يفشو في العالم على صورة مطردة هائلة، وأن آخرة مدنيتنا ربما انتهت بالجهالة، ولعله كان يبالغ، وأنا أيضا أحمل نفسي على المبالغة، ولن نعدم برهانا لإثبات هذا القياس المقلق، ولعمري هل المدنية المادية غير سهولة كل شيء، والتمهيد لكل شيء، وقلة الجهد، وفقد الشخصيات؟ إن الآلات تعمل عملها لا تحفل ما فيها من ضرر، ونحن لسنا بمأمن من شر سحقها لنا، وسيتجلى لفلاسفة الأجيال المقبلة أن الحضارة في القرن التاسع عشر، وهي ميكانيكية وعلمية، قد أدخلت البلادة على عقول الناس، وأنزلت المستوى العقلي حتى ابتذل، وعلى قدر ما انتفعنا بالصحافة والكهرباء تخلينا عن الدرس؛ فنحن نهمل درس العلوم الأدبية، ونعنى كل العناية بصنع آلات أكثر من عنايتنا بتربية نفوس، والجراثيم الضارة تربى في أرضنا على غاية من السهولة، وفي الزمن الغابر كانت بذور الجراثيم تنمو في بعض النفوس الخاملة على خفاء، أما الآن فتنمو وتلوث جميع الرءوس التي ألفت الرذيلة، ففساد السياسيين، وفضائح المضاربين، ومفاخر السارقين، وجميل جرائم المجرمين، كل أولئك يطير ويسير ويفسد النفوس بإسراع الصاعقة، أريد أن أقول بسرعة البرق؛ أي على معدل ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية.
ثم ذكر فضائح الصحافة وسعيها أبدا لإسقاط كل صاحب مكانة لتضحك قراءها، وتعلمهم ثلم الأعراض، وكشف كل ستر، وقال إن القحة هي أول ما يتجلى في المجتمع الحديث، والثاني احتقار الثقافة الحقة التي استعيض عنها بطلاء أولي سطحي مستعار، وكان الناس قبل هذه المخترعات الكبرى يتفاوضون قليلا، ويوجزون فيقتصرون في تناجيهم على إيراد الأمور الجوهرية، وكان الناس طبقتين: علماء وجهلاء، أما الآن فقد قربت المساوف، وتعبد كل صعب، وسهل كل أمر، وأخذ كل واحد يتحف صاحبه بما عنده من التافهات والبلاهات، يتكلمان في كل شيء ولا يحفلان شيئا من الأشياء، وكيف نعجب بمدنيتنا وهي تفقد الروح ولا معبود فيها ولا هدف لها، وليس فيها حقيقة جوهرية واحدة تزيد على ما كان في الحضارات السالفة، نحن مقبلون في كتيبة من الجهل والغرور على مستقبل فيه قحة، وفيه بلبلة، وفيه سفاهة، ولعله لا يخلو من بلاهة وغباوة، كان فلاماريون يرى أن العالم ينتهي أمره ببرودة سطح الأرض، ومن رأي سولي برودوم أنه سيضمحل بالإفراط في الشهوات، وأنا أرى أن الترهات المنبعثة عن الجهالة والغرور تطفئ النور الأوروبي على نحو ما أطفأت الأنوار القديمة. ا.ه. •••
قارن علماء هذا العصر بين المدنية العربية وغيرها، ومن أقرب الآراء التي رأيناها إلى الاعتدال رأي العلامة جوستاف لوبون، قال إنه كانت للعرب صفات ومساوئ عظيمة جدا واستعداد عقلي عال؛ فهم أحط من الرومان بأوضاعهم السياسية والاجتماعية وأعلى منهم كعبا في اتساع معارفهم في العلم والصناعة، وقد أحرزوا في الجملة مقاما عاليا في التاريخ، ولم يظهر الرومان كفاءة في الصناعات والعلوم، وكان اليونان سادتهم في عامة الشئون العقلية، ومع هذا فقد استعبد الأولون الآخرين، والحكم على القيمة العقلية في أمة وعلى ارتقائها في سلم المدنية مقرون بما أخرجت من الرجال، فإذا جمعت إلى تفوقها العقلي عددا غير قليل من أبنائها النابغين، وكان سوادها الأعظم مؤلفا من أفراد هم وسط في ذكائهم وتعلمهم، واتصفوا بأخلاق عالية، كان في ذلك رفعتها، ولقد جاء رجال ممتازون من العرب، وما وفقوا إليه من الأعمال وكشفوه من الحقائق العلمية دليل على مكانتهم، ولكن العرب لم يرزقوا فيما أحسب رجالا من عيار نيوتن وليبنز اللذين قلبا العالم بما كشفاه، فالعرب إذن أحط من اليونان في كثير من المسائل، مساوون ولا شك للرومان بذكائهم، وإذا قست العرب بالشعوب الأوروبية الحديثة، أمكنك أن تقول إنهم من حيث العقل والأخلاق أسمى مكانة من كل الأمم التي عاشت قبل عصر النهضة، وقد فاقوا بأخلاقهم أجدادنا كثيرا.
نامعلوم صفحہ