وكان هذا الأمير البرتقالي عالما باحثا انقطع إليه بعض علماء اليهود وعلماء من المسلمين من أهل فارس ومراكش المغاربة، كانوا يعدون لذاك العهد من أرقى علماء العالم، وأخذوا ينقبون في كتب العرب وغيرهم في علم الجغرافيا، حتى عرفوا أن في الإمكان الدوران حول إفريقية، وألفت البرتقال حملاتها البحرية بمعاونة ملاحين من العرب، ومنهم ابن ماجد البصري، والقواد من النصارى أمثال فاسكو دي جاما والبوكرك وماجللان، فنجحت أسفارهم البحرية وكانوا من قبل استولوا على معظم شواطئ الغرب الأقصى، وما زالوا يفتحون في طريقهم إلى رأس الرجاء الصالح المواني البحرية، وفتحوا ممبسة وزنجبار وموسامبيق وملندة وغيرها حتى وصلوا إلى مليبار، واتصلوا بجزائر الأبازير في الهند، وصار بحر الهند والصين تحت سلطانهم، لا شيء غير تجارتهم تنقل على سفنهم، ولا يستطيع إنسان أن يتجر بدون أمنهم وجوازهم، وذلك في الأصناف التي لا يريدون هم أن يتجروا بها لقلة الانتفاع بأرباحها الضئيلة، وهذا كان مبدأ اختلاط الغربيين بالشرقيين، ولا سيما بالعرب في مطلع القرون الحديثة، والحاصلات التي اهتم لها البرتقاليون بادئ بدء لاستبضاعها من الشرق الفلفل والقرنفل والزنجبيل والقرفة والبسباس، وأكثر ما كان البرتقاليون يهمهم أن يضربوا في تلك الأصقاع على أيدي تجار العرب؛ لأنهم كانوا مستأثرين بالتجارة أكثر من غيرهم من العناصر، على ما روى ذلك الشيخ زين الدين في كتابه «تحفة المجاهدين في بعض أحوال البرتكاليين».
وأدرك البنادقة، وكانوا سادة التجارة في البحر المتوسط، عظم الخطر على تجارتهم، فحثوا السلطان الغوري من سلاطين المماليك في مصر والشام على حرب البرتقاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ لينقذوا تجارتهم وتجارة مصر معا، وأرسل البنادقة الأخشاب تنقل من بلاد البنادقة في المراكب إلى الإسكندرية، ومنها على متون الجمال إلى السويس، ويتولى صنعها أناس من البنادقة حتى تستوي سفنا صالحة، وحارب المصريون جماعات البرتقاليين ومعهم أناس من البنادقة والجنويين والبيزيين من الطليان ممن كان استعمارهم في شواطئ البحر الرومي استعمار استثمار كالاستعمار الفينيقي والقرطاجني، أما استعمار البرتقاليين والإسبانيين ثم الهولانديين والبريطانيين والروسيين والفرنسيس والبلجيكيين فكان كالاستعمار الروماني واليوناني عبارة عن فتح واستيلاء واستيطان وامتلاك المتاجر والزراعات، ونشر لغة وعادات، وبث مذاهب وتعاليم.
كانت التجارة في كل دور من أدوار حضارة البشر تشغل بال الأمم وتعنى برواجها الحكومات، تسلك إليها كل سبيل؛ فقد كانت تجارة الشرق والغرب منحصرة بادئ بدء بآسيا الصغرى في الأصقاع الممتدة بين البحر المتوسط من الغرب، وسهول أرمينية من الشمال، وسفوح جبال إيران من الشرق، والخليج الفارسي وشبه جزيرة العرب من الجنوب، وكانت آشور مخزن محاصيل تلك البقاع لموقعها الجغرافي، وكانت المدينتان العظيمتان، نينوى على دجلة وبابل على الفرات، تتوليان كبر التجارات الصادرة والواردة.
ولما هب العرب للاستعمار أظهروا لينا وسماحة مع الأمم كلها، واستعمارهم أشبه بالاستعمار الروماني واليوناني، وما لبثوا أن منحوا ملاحين من الطليان امتيازا بالاتجار أحرارا في شواطئ بلاد المغرب؛ فكانت تباع في إفريقية منسوجات نابل، ثم تحولت تجارة الهند عن طريق بغداد، وأنشأت تسير توا إلى البحر الأحمر، وأصبحت مواني المغرب مراكز للملاحة بين مصر وإسبانيا، ولم يحدث من الحروب الصليبية غير اضطراب خفيف في العلائق التجارية، فأورثت التجارة الأوروبية نهضة جديدة أطلعت الغربيين في الشرق على طرق لم يكونوا يعرفونها، وعقد شارل السادس محالفة تجارية مع تيمورلنك التتري، وعقد شارل السابع محالفة تجارية مع سلطان مصر وملوك قرمان وتونس وبجاية وفاس ووهران.
وكانت مراكب بارة (باري) تسافر إلى مواني الشام قبل الحرب الصليبية، وقد عقد أمراء سالرن ونابل وجايت وأمالفي في سنة 875م معاهدة مع العرب، كما عقد صلاح الدين وجمهورية بيزا معاهدة سنة 569 / 1172 منح بها البيزانيين عدة امتيازات خاصة بالتقاضي، وحصل الفلورنتيون أهل فلورنسة من قايتباي سلطان مصر والشام على عدة امتيازات؛ وكانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما منحه الأوروبيون من الامتيازات الأجنبية في الشرق، وعقدت عدة معاهدات مع الملك الأشرف والصليبيين (684ه) والريدراغون صاحب برشلونة 692، وفي كتاب الشروط والعقود السياسية بين ملوك بيسه (بيزا) وفلورنته (فلورنسة) وبين ملوك المسلمين في تونس والمغرب الأقصى؛ إن هذه المعاهدات بدأت من منتصف السادس من الهجرة وكان آخرها في سنة عشر وتسعمائة، وملك أزمة التجارة مع الطليان الكتالانيون والبروفانسيون والقبرسيون والرودسيون، وكثر قناصل الدول التجارية من أهل الغرب في مدن الشرق، وكثر الاتجار بالرقيق، وكان جميع أمم الأرض تتجر بهذه التجارة الممقوتة، يستخدمون من يسترقونهم آلات للعمل ويمنعون عنهم في دولة الرومان تعلم القراءة والكتابة، ولم يكن هذا الصنف المغموط الحق يعامل معاملة حسنة في الدول الأوروبية الحديثة. يقول هيد: وقد حدا حب الربح تجارا من النصارى أن يبيعوا أبناء دينهم بيع الرقيق من عرب إسبانيا وإفريقية والشام، فاتخذ شارلمان والبابا زكريا وأدريانوس الأول الأسباب لمنع هذه التجارة غير المحللة.
قام الإسبان ثم الهولانديون يستعمرون بعد البرتقاليين إلا أنهم لم يستعمروا بلاد العرب، بل وجهوا وجوههم إلى أمريكا الجنوبية وسواحل الهند وجزائر جاوة وصومطرا، ثم قام الفرنسيس والإنجليز بعد ذلك فوجهوا وجهتهم إلى الشرق، وكان أول من وصل من الغربيين إلى الشرق العربي جيش نابوليون يفتح مصر في سنة 1798؛ فاختلط الفرنسيس بالمصريين والمصريون بالفرنسيس، وكان هؤلاء لم يهبطوا مصر منذ أسر ملكهم سان لوي في الحملة الصليبية السابعة في وقعة دمياط والمنصورة، وقيد وحبس في دار كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان ووكل به الطواشي صبيح المعظمي (648ه) ثم افتدى نفسه بثمانمائة ألف دينار وعاد إلى بلاده، فبلغ أمراء مصر أنه أخذ في الاستعداد ليعود فيملك دمياط، فكتب إليه الوزير جمال الدين بن مطروح أبياتا تنم عن روح العصر وهي قوله:
قل للفرنسيس إذا جئته
مقال صدق من قئول فصيح
آجرك الله على ما جرى
أفنيت عباد يسوع المسيح
نامعلوم صفحہ