آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
اصناف
وأعود فأكرر إن النظرية التاريخية ليست فقط مما لا يمكن الدفاع عنه بالعقل، إنما هي كذلك في صراع مع أي دين يبشر بأهمية الضمير؛ لأن مثل هذا الدين لا بد أن يتفق مع نظرة العقل إلى التاريخ حين يؤكد مسئوليتنا الكبرى عن أعمالنا، وعن صداها في مجرى التاريخ. حقا إننا في حاجة إلى الأمل. والعمل والعيش بغير أمل يتجاوزان ما لدينا من قدرة. ولكنا لسنا في حاجة إلى «أكثر» من ذلك، وينبغي ألا نعطي أكثر من ذلك. إننا لسنا في حاجة إلى اليقين، وينبغي ألا يكون الدين خاصة عوضا عن الأحلام وعن التمنيات، ولا ينبغي له أن يكون شبيها بحيازة ورقة اليانصيب، أو حيازة بوليصة التأمين في شركة من شركاته. إن عنصر النظرية التاريخية في الدين هو عنصر من عناصر الوثنية والخرافة.
وهذا الاهتمام الزائد بثنائية الوقائع والقرارات يحدد أيضا موقفنا إزاء فكرة «التقدم» وما إليها. إذا اعتقدنا أن التاريخ يتقدم، أو أن تقدمنا أمر محتوم، فنحن إذن نرتكب نفس الخطأ الذي يرتكبه أولئك الذين يعتقدون أن للتاريخ معنى يمكن الكشف عنه فيه، وليست بنا حاجة إلى أن نكسبه إياه؛ لأن التقدم معناه السير نحو غاية من الغايات، نحو غاية موجودة بالنسبة إلينا ككائنات بشرية. و«التاريخ» لا يستطيع أن يفعل ذلك، إنما هو نحن - أفراد البشر - الذين نستطيع أن نفعله، نستطيع أن نفعله بدفاعنا عن تلك المؤسسات الديمقراطية التي تتوقف عليها الحرية، ومعها التقدم وتعزيزنا لها، ونستطيع أن نجيد هذا العمل إذا ازداد وعينا بأن التقدم يتوقف علينا، وعلى يقظتنا، وعلى جهودنا، وعلى وضوح تصورنا لغاياتنا، وعلى اختيارها على أساس من الواقع.
وبدلا من أن نقف موقف المتنبئين يجب علينا أن نصنع مصيرنا بأنفسنا، يجب علينا أن نتعلم صنع الأشياء كأحسن ما نستطيع، وأن نتنبه إلى أخطائنا. وإذا ما نحن تخلينا عن الفكرة التي تقول بأن تاريخ النفوذ سوف يحكم علينا، وإذا ما نحن تخلينا عن القلق الذي يساورنا إن كان التاريخ سيسوغ أعمالنا أو يدينها، إذا نحن تخلينا عن ذلك، فربما نجحنا ذات يوم في إخضاع النفوذ لسلطاننا. بهذه الطريقة قد نسوغ التاريخ نفسه بدورنا ، وهو في أمس الحاجة إلى مثل هذا التسويغ.
المصادر ⋆
كل المقتطفات في هذا الفصل مقتبسة من كتاب «المجتمع الحر وخصومه»، تأليف ك. ر. بوبر.
الفصل الثاني عشر
برتراند رسل
(1872م-...)
لبرتراند رسل تأثير يكاد يكون ساحرا في عالم الفلسفة الإنجليزية الأمريكية امتد إلى نصف قرن من الزمان. ويرجع ذلك، إلى حد ما، إلى قدرته على أن يكتب كالملك الكريم، ولكنه الملك الذي يجرؤ - بالرغم من ذلك - على أن يستعير النكتة اللاذعة من المصادر الشيطانية، كما يرجع ذلك إلى حد أكبر إلى إضافته الضخمة إلى الفلسفة الرياضية في كتابه المشهور «مبادئ الرياضة» الذي يقع في ثلاثة مجلدات، وهو الكتاب الذي ألفه مع نوث ألفرد هوايتهد. وبظهور هذه المجلدات فيما بين عامي 1910 و1913م اكتسب رسل الشهرة التي جلبت له القراء لمؤلفاته التالية. وهذه المؤلفات التي واصل فيها اهتمامه بالرياضة والمنطق الرمزي، كانت تجول في ميادين نظرية المعرفة، والفلسفة الاجتماعية. ومن الحقائق العجيبة الصادقة عن هذا الفيلسوف الخفيف الروح الذكي اللامع أنه في الوقت الذي يدرس فيه زملاؤه في العلم وخريجو الجامعات كتبه دراسة دقيقة، نجد فيه الطبعات الرخيصة من كتبه التي أعيد طبعها في موضوعات مثل الزواج والتربية والأخلاق مودعة إلى جوار شطائر الطعام في حقائب الغداء التي يحملها العمال؛ لكي يلتهموها مسرورين في الوقت الذي يلتهمون فيه هذه الشطائر. وفي منتصف الثلاثينيات من هذا القرن حينما تقرر أن يلقي رسل إحدى محاضراته العامة في نيويورك في «معبد مكة» توقفت حركة المرور حول الأبنية المجاورة لهذا المكان عندما أقبل جمهور ضخم من المستمعين ليستمتعوا بموكب من مواكب العلم اللامع البراق.
وفي عام 1950م أصبح لورد رسل الفيلسوف الثالث الذي ظفر بجائزة نوبل في الأدب «اعترافا بمؤلفاته الهامة المتعددة الجوانب، التي ظهر فيها دائما مدافعا عن الإنسانية وحرية الفكر». وتشير هذه العبارة إشارة دقيقة إلى عنصر أساسي في كتابات رسل الفلسفية غير الفنية، منذ العهد الباكر الذي نشر فيه مقاله المشهور «عبادة الرجل الحر» في إذاعته من محطة الإذاعة البريطانية في مناسبة عيد ميلاده الثمانين، وإلى كتبه في الموضوعات الأخلاقية والسياسية التي ما فتئت تتدفق من سن قلمه؛ لأن رسل قد يخطئ كثيرا في بعض ما يفترض من آراء، وقد يشتبك في جدل عاصف عنيد مدفوعا بحماسة التأثر السياسي، إلا أنه قد تمكن في جميع الحالات من تذكير الناس بتقاليد المدنية والعدالة التي يتميز بها الروح الحر في الحضارة الغربية من عهد بركليز حتى يومنا هذا.
نامعلوم صفحہ