آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
اصناف
1
وليس من شك في أن تاريخ الجنس البشري ليس أحد هذه التواريخ (بل وليس كل هذه التواريخ مجتمعة). أما ما يقصده الناس حينما يتحدثون عن تاريخ الجنس البشري، فهو تاريخ المصريين والبابليين والفرس والمقدونيين والإمبراطورية الرومانية، وما إلى ذلك، حتى يومنا هذا. وبعبارة أخرى: إنهم يتحدثون عن «تاريخ الجنس البشري»، ولكن ما يقصدونه وما تعلموه في المدارس هو تاريخ «النفوذ السياسي».
ليس هناك تاريخ للجنس البشري، إنما هناك تواريخ لأوجه الحياة البشرية بشتى ضروبها. وأحد هذه الأوجه هو تاريخ النفوذ السياسي، ويرتفع ذلك إلى تاريخ العالم. ولكنني أقرر أن في ذلك إساءة إلى أية صورة كريمة عن الجنس البشري. وهي لا تكاد تفضل معالجة تاريخ التزوير أو النهب أو دس السم باعتباره تاريخ الجنس البشري؛ لأن تاريخ النفوذ السياسي ليس إلا تاريخ الإجرام الدولي والقتل الجماعي (ومن الحق أن نذكر أنه يتضمن أيضا بعض المحاولات لقمع هذه الاتجاهات). وهذا هو التاريخ الذي نعلمه في المدارس، وكثير من أكبر المجرمين يقدمون إلى التلاميذ كأنهم من الأبطال.
ولكن هل حقا ليس هناك تاريخ عالمي بمعنى التاريخ المحسوس للجنس البشري؟ يمكن ألا يكون هناك مثل هذا التاريخ. ولا بد أن يكون ذلك هو جواب كل إنساني - فيما أعتقد - وبخاصة من كان مسيحيا. إن التاريخ الملموس للجنس البشري - إن وجد - يجب أن يكون تاريخ الناس جميعا، يجب أن يكون تاريخ كل الآمال البشرية، ومعارك الكفاح، والآلام؛ إذ ليس هناك رجل أكثر أهمية من غيره. ومن الواضح أن هذا التاريخ الملموس لا يمكن تدوينه. ويجب أن نضع الأحكام المجردة، وأن نهمل، وأن نختار، ولكنا بهذا نبلغ التواريخ المتعددة، ومن بين هذه التواريخ تاريخ الإجرام الدولي والقتل الجماعي الذي نشر باعتباره تاريخ الجنس البشري.
ونحن نسأل: لماذا اختير تاريخ النفوذ، ولم يقع الاختيار مثلا على تاريخ الشعر؟! هناك أسباب عدة، من بين هذه الأسباب أن النفوذ يؤثر فينا جميعا، أما الشعر فلا يؤثر إلا في عدد محدود. وسبب آخر هو أن الناس يميلون إلى عبادة القوة. ولكن مما لا شك فيه أن عبادة القوة هي من أسوأ أنواع العبادات البشرية، وهي من بقايا عهد الأسر، وعهد العبودية البشرية. إن عبادة القوة تتولد عن الخوف، وهو إحساس يستحق الازدراء حقا. وسبب ثالث: لماذا جعلنا سياسة القوة هي لب «التاريخ»؟! هو أن أصحاب النفوذ أرادوا أن يعبدوا، وأمكن لهم أن يفرضوا ما أرادوا. وكم من مؤرخ دون التاريخ تحت رقابة قادة الجيوش والحكام المستبدين!
وأنا أعلم أن هذه الآراء سوف تقابل بأشد معارضة، وبخاصة من بعض من يدافعون عن المسيحية؛ لأن الاعتقاد بأن الله يكشف عن نفسه في التاريخ كثيرا ما يعد من العقائد المسيحية، وذلك بالرغم من أن العهد الجديد يكاد يخلو مما يؤيد هذا الرأي، كذلك يعد من العقائد المسيحية أن للتاريخ معنى، وأن معناه هو هدف الإله؛ ومن ثم فإن الاعتقاد في التاريخ يعد عنصرا ضروريا من عناصر الدين. غير أني لا أقر بهذا، وأحتج بأن هذا الرأي ليس إلا عبادة وثنية وخرافة، ليس من وجهة نظر العقليين والإنسانيين فحسب، ولكن من وجهة النظر المسيحية ذاتها.
ولست أنكر أن تفسير التاريخ من وجهة النظر المسيحية له ما يسوغه، كما أن تفسيره من أية زاوية أخرى له أيضا ما يسوغه. ومما لا شك فيه أنه من الواجب - مثلا - أن نؤكد أنا ندين لتأثير المسيحية بقدر كبير من أهدافنا وغايتنا في الغرب، ومن المذهب الإنساني، والحرية، والمساواة. بيد أن النظرة العقلية الوحيدة، والنظرة المسيحية الوحيدة، في الوقت عينه، حتى إلى تاريخ الحرية هي أنا مسئولون عنها بأنفسنا مسئوليتنا عما نصنع بحياتنا، وأنه لا يحكم علينا إلا ضمائرنا، لا نجاحنا في هذه الدنيا. أما النظرية التي تقول بأن الله يظهر نفسه كما يظهر أحكامه في التاريخ، فلا يمكن أن تتميز عن النظرية التي تقول بأن النجاح الدنيوي هو الحكم النهائي والمسوغ الغائي لأعمالنا. ولا يختلف ذلك عن إيماننا بالمذهب الذي يقول بأن التاريخ سوف يحكم؛ أي إن المستقبل قد يكون على صواب، ولا يختلف عما أسميته «حكم المستقبل الأخلاقي». إن اعتقادنا بأن الله يكشف عن نفسه فيما نسميه عادة ب «التاريخ»، في تاريخ الإجرام الدولي والقتل الجماعي، هو في الواقع كفر بالله؛ لأن ما يحدث فعلا داخل حياة الأفراد قلما يتأثر بهذا القول الصبياني القاسي. إن المضمون الحقيقي للتجربة البشرية خلال العصور هو حياة الفرد المنسي المجهول، أحزانه وأفراحه، وآلامه وموته، فإن أمكن للتاريخ أن يروي ذلك، فإني قطعا لن أقول إنه من الكفر بالله أن نرى تأثير الله فيه، ولكن مثل هذا التاريخ لا يوجد ولا يمكن أن يوجد. ⋆ (1-5) نستطيع أن نكسب التاريخ معنى
لقد اعترضت بقولي بأن التاريخ يخلو من المعنى. غير أن هذا الاعتراض لا يعني أن كل ما نستطيع القيام به في هذا الشأن هو أن ننظر مذهولين إلى تاريخ النفوذ السياسي، أو أن ننظر إليه كأنه فكاهة قاسية؛ لأنا نستطيع أن نفسره، بالنظر إلى مشكلات النفوذ السياسي التي نحاول حلها في هذا العصر، نستطيع أن نفسر تاريخ النفوذ السياسي من وجهة نظر كفاحنا في سبيل المجتمع الحر، وفي سبيل حكم العقل، والعدالة، والحرية، والمساواة، وفي سبيل الحد من الإجرام الدولي. وبالرغم من أن التاريخ ليس له غايات، فإنا نستطيع أن نفرض عليه غاياتنا هذه، و«بالرغم من أن التاريخ لا معنى له، فإنا نستطيع أن نكسبه معنى».
إن الطبيعة والتاريخ كليهما لا يستطيعان أن يهديانا إلى ما ينبغي لنا أن نفعله؛ فالوقائع - سواء كانت طبيعية أم تاريخية - لا تستطيع أن تصدر لنا قرارا، ولا تستطيع أن تحتم الغايات التي نختارها، فنحن الذين نحدد للطبيعة والتاريخ الغرض والمعنى. ليس الناس متساوين، ولكنا نستطيع أن نقر الكفاح من أجل المساواة. والمؤسسات البشرية كالدولة لا تقوم على أساس من العقل، ولكنا نستطيع أن نقرر الكفاح في سبيل إقامتها على أساس من العقل. ونحن أنفسنا، ولغتنا العادية، عاطفيون أكثر منا عقليين على وجه الإجمال، ولكنا نستطيع أن نكون أكثر عقلا، ونستطيع أن ندرب أنفسنا على استعمال لغتنا كأداة لا نعبر بها عن أنفسنا (كما يريد لنا المربون الخياليون)، ولكن كأداة للاتصال المعقول، والتاريخ نفسه - أقصد تاريخ النفوذ السياسي بطبيعة الحال، ولا أقصد قصة تقدم الجنس البشري التي لا وجود لها - ليس له غاية ولا معنى، ولكنا نستطيع أن نكسبه هذا وذاك، نستطيع أن نجعله كفاحنا في سبيل المجتمع الحر ضد خصومه (الذين يحتجون دائما - عندما يتورطون - بعواطفهم الإنسانية، طبقا لما نصح به باريتو)، ونستطيع أن نفسر التاريخ وفقا لذلك، ونستطيع أن نقول مثل ذلك في نهاية الأمر عن «معنى الحياة»، ويتوقف علينا أن نقرر ماذا يكون غرضنا في الحياة، وأن نحدد غاياتنا.
وأعتقد أن ثنائية الوقائع والقرارات أساسية؛ فالوقائع كما تحدث لا معنى لها، ولا يمكن أن تكتسب المعنى إلا بما نصدر من قرارات. وليس الاعتقاد في النظرية التاريخية إلا إحدى المحاولات العديدة للتغلب على هذه الثنائية؛ لأن هذه النظرية إنما تتولد عن الخوف، وتخشى أن تؤمن بأن الإنسان يتحمل المسئولية النهائية حتى عن المعايير التي يختارها. بيد أن مثل هذه المحاولة تبدو لي كأنها تمثل أدق تمثيل ما نسميه عادة بالخرافة؛ لأنها تفترض أنا نستطيع أن نحصد دون أن نزرع. إنها تحاول أن تقنعنا أننا إذا تمشينا مع التاريخ واكتفينا بذلك فلا بد أن يسير كل شيء سيرا صحيحا، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى إصدار قرار أساسي من جانبنا، إنها تحاول أن تنقل مسئوليتنا إلى التاريخ، وعن طريق ذلك تنقلها إلى القوى الشيطانية التي لا سلطان لنا عليها، إنها تحاول أن تقيم أعمالنا على أساس النوايا الخفية لهذه القوى، التي لا تتكشف لنا إلا في ومضات صوفية غامضة وعن طريق الحدس واللقانة؛ وهي لذلك تضع هذه الأعمال وهذه القرارات على المستوى الخلقي لرجل يستوحي النجوم والأحلام فيختار رقم ورقة اليانصيب الفائزة. إن النظرية التاريخية - كالمقامرة - تتولد عن يأسنا من التعقل والمسئولية في أعمالنا. إنها أمل زائف وإيمان زائف، ومحاولة للاستعاضة عن الأمل والإيمان اللذين يصدران عما لدينا من حماسة خلقية، وعن ازدراء النجاح بإيمان يصدر عن علم زائف، علم زائف عن النجوم، أو عن «الطبيعة البشرية»، أو المصير التاريخي.
نامعلوم صفحہ