آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
اصناف
ونستطيع - طبقا لذلك - أن ندرك لماذا يفزع بعض الناس لهذا المذهب؛ لأن الوسيلة الوحيدة التي يستطيعون أن يحتملوا بها بؤسهم كثيرا ما تكون في حسبانهم. «إن الظروف كانت ضدي، وما كنته وما فعلته لا ينم عن قيمتي الحقيقية. حقا إني لم أحب حبا عظيما، ولم أصادق صداقة كبرى، غير أن ذلك لأني لم ألاق رجلا أو امرأة حقيقا بذلك. والكتب التي ألفتها لم تكن جيدة جدا؛ لأنه لم يتوافر لي الفراغ الكافي. ولم يكن لي أطفال أكرس لهم حياتي لأني لم أعثر على رجل أستطيع أن أقضي حياتي معه؛ ولذا فلا يزال عندي حشد من الميول والاستعدادات والإمكانيات لا يمكن لأحد أن يقدرها من مجرد تسلسل الأمور التي قمت بها، وهي ميول واستعدادات وإمكانيات لم تستخدم برغم حيويتها الشديدة .»
أما الوجودي فلا يرى في الواقع حبا غير ذلك الذي يظهر في شخص المحب ولا يرى نبوغا غير الذي تعبر عنه الأعمال الفنية. إن نبوغ بروست هو مجموع ما أنتجه بروست، ونبوغ راسين هو سلسلة مآسيه. ولا يوجد خارج هذه الدوائر شيء ما. لماذا نقول إن راسين كان بوسعه أن يكتب مأساة أخرى في حين أنه لم يكتبها؟ إن المرء يشتبك في الحياة، ويترك فيها أثره، ولا يقع خارج ذلك شيء ما. وليس من شك في أن هذا الرأي قاس على رجل لم تكن حياته ناجحة، ولكنه - من ناحية أخرى - يحفز الناس على أن يدركوا أن الواقع وحده هو الذي يحسب حسابه، أما الأحلام والآمال وما نتوقع فلا تؤدي بنا إلا إلى أن نعرف الإنسان بالحلم الذي لم يتحقق، والآمال الذي أخفقت، والرجاء الذي خاب. أو بعبارة أخرى، نحن بذلك نعرف الإنسان تعريفا سلبيا ولا نعرفه تعريفا إيجابيا. ومهما يكن من شيء، فإننا عندما نقول «إنك لست إلا حياتك»، فلا يتضمن ذلك أن الفنان لا يحكم عليه إلا على أساس أعماله الفنية، فهناك ألوف الأشياء الأخرى التي تسهم في تكوين مجموعه. إن ما نعنيه هو أن الإنسان ليس إلا سلسلة من الأعمال التي يؤديها، وأنه عبارة عن حصيلة، أو صورة، مجموعة العلاقات التي تكون هذه الأعمال.
هل لي أن أسأل: هل هناك من اتهم فنانا صور صورة ما بأنه لم يرسم وحيه طبقا لقواعد موضوعة من قبل؟ وهل سأل سائل: «أية صورة يجب عليه أن يصورها؟» من الواضح جليا أنه ليست هناك صورة معينة يجب رسمها، وأن الفنان مرتبط برسم صورته، وأن الصورة التي يجب رسمها هي بعينها الصورة التي أداها. ومن الواضح جليا أنه ليست هناك قيم فنية سابقة، وإنما هناك قيم تظهر فيما بعد في الصورة المؤداة، وفي المقابلة بين النتيجة التي انتهى إليها الفنان وما كان في تصميمه. ولا يستطيع أحد أن يقول على أية صورة سيكون الفنان في غده؛ فالصورة لا نحكم عليها إلا بعد رسمها . وما علاقة ذلك بالأخلاق؟ إننا في نفس الموقف الخلاق، إننا لا نقول قط إن العمل الفني عمل اعتباطي، فإننا حينما نتحدث عن لوحة لبيكاسو لا نقصد قط أنها جاءت اعتباطا؛ فنحن ندرك تمام الإدراك أنه كان يصنع بنفسه ما كان عليه في الوقت ذاته الذي كان يصور فيه، وأن مجموعة عمله تتجسد في حياته.
والأمر كذلك على المستوى الخلقي. وما يشترك فيه الفن والأخلاق هو أننا في كلتا الحالتين نخلق ونخترع، ولا نستطيع أن نقرر سلفا ما سوف يؤدي. وأعتقد أني وضحت ذلك توضيحا كافيا جدا حينما ذكرت حالة الطالب الذي جاء لمقابلتي، والذي ربما التجأ إلى كل النظم الأخلاقية، كانتية كانت أو غير ذلك، دون أن يظفر بأي نوع من أنواع الاسترشاد. وقد اضطر إلى أن يضع قانونه بنفسه. ولا يصح أن نقول إن هذا الشاب - الذي أحب شخصا معينا، وسلك إزاءه سلوكا فرديا، وعطف عليه عطفا خاصا باعتباره المصدر الأول لأخلاقه، فاختار لذلك أن يبقى مع أمه، أو ذلك الذي آثر أن يضحي فاختار أن يرحل إلى إنجلترا - لا يصح أن نقول إنه اختار اختيارا اعتباطيا، إنما الإنسان يصنع نفسه، وهو ليس مهيأ على صورة خاصة منذ بدايته. إنه عند اختيار قواعده الأخلاقية يصنع نفسه، والظروف تقهره إلى حد أنه لا يستطيع أن يمتنع عن اختيار مجموعة معينة من قواعد الأخلاق. إننا لا نعرف الإنسان إلا من حيث علاقته بالبيئة؛ ومن ثم فمن العبث أن نتهم بالاعتباط في الاختيار. ⋆ (1-6) الوجودية والإنسانية
يلومونني لأنني أتساءل عما إذا كانت الوجودية إنسانية! فلقد قيل لي: «ولكنك قلت في مسرحيتك «الغثيان» إن الإنسانيين جميعا على خطأ، وسخرت من نوع خاص من الإنسانيين، فلماذا تعود إليها الآن؟» والواقع أن كلمة الإنسانية لها معنيان يختلفان جد الاختلاف؛ فقد يعني بها المرء نظرية تجعل الإنسان غاية وذا قيمة أعلى. والإنسانية بهذا المعنى يمكن أن تلتمس في قصة ككتو «حول العالم في ثمانين ساعة»، حيث يصرح أحد أشخاص القصة - لأنه يطير فوق الجبال في طائرة - «أن الإنسان مخلوق عجيب». ومعنى ذلك أنني أنا الذي لم أصنع الطائرات، سوف أنتفع شخصيا من هذه المخترعات الخاصة، وإني - كإنسان - سوف أعد نفسي شخصيا مسئولا عن أعمال قامت بها حفنة من الرجال، وسوف ينالني شرف ما قاموا به من عمل. ويتضمن ذلك في معناه أننا نعزو إلى الإنسان قيمة على أساس أسمى ما قام به بعض الناس من عمل. وهذه الإنسانية عبث باطل؛ لأنه لا يستطيع أن يصدر حكما عاما كهذا على الإنسان إلا كلب أو حصان، وحتى هذان الحيوانان لم يفعلا ذلك على الأقل فيما أعلم.
ولا يمكن أن نسلم بأن الفرد يمكنه أن يصدر حكما على الإنسان، والوجودية تعفيه من مثل هذا الحكم، والوجودي لن يعتبر الإنسان غاية لأنه دائما في دور التكوين، بل ولا ينبغي لنا أن نعتقد أن هناك جنسا بشريا نستطيع أن نضع له شعائر معينة على طريقة أوجست كومت؛ فشعائر الجنس البشري تنتهي بإنسانية أوجست كومت المنطوية على ذاتها، ونستطيع أن نقول إنها تنتهي إلى الفاشية. وهذا الضرب من الإنسانية نستطيع الاستغناء عنه.
غير أن للإنسانية معنى آخر، وهو أساسا أن الإنسان خارج عن نفسه دائما. وهو في إبرازه لنفسه، وفي فقدانه لنفسه، خارج نفسه، يعمل على وجود الإنسان، وبمتابعته لأهداف تتجاوز شخصه - من ناحية أخرى - يستطيع أن يعيش. ولما كان الإنسان هو هذه الحالة من التجاوز، ولما كان لا يتمسك بالأشياء إلا لأن لها أثرا على هذا التجاوز، فهو في صميمه مركز هذا التجاوز. وليس هناك عالم غير العالم البشري، أو عالم الذاتية البشرية. وهذه العلاقة بين التجاوز - باعتباره عنصرا من العناصر المكونة للإنسان، لا بمعنى أن الله يتجاوز الإنسان، ولكن بمعنى أن الإنسان يتجاوز نفسه - وبين الذاتية، بمعنى أن الإنسان ليس منطويا على نفسه، ولكنه كائن دائما في عالم بشري، هو ما نسميه الإنسانية الوجودية، فهي إنسانية؛ لأنا نذكر الإنسان أنه ليس هناك من يضع القوانين غيره، وأنه في خذلانه سيقرر لنفسه، لا بالنظر إلى نفسه، ولكن ببحثه خارج نفسه عن هدف هو هذا التحرير ذاته، وهذا التحقيق للذات عينه.
ومن هذه الآراء القليلة يتبين أنه ليس هناك أشد تعسفا من الاعتراض الذي وجه إلينا. ليست الوجودية إلا محاولة استخراج كل النتائج التي تترتب على النظرة الإلحادية المتماسكة. ليست الوجودية هي البتة محاولة الزج بالإنسان في غمرة اليأس. أما إذا كان المرء يسمي كل نظرة من نظرات انعدام العقيدة يأسا - كما يفعل المسيحيون - فالكلمة إذن لم تستعمل في معناها الأصلي. ولم تبلغ الوجودية من الإلحاد حدا يقضي عليها لأنها تقول بأن الله غير موجود، وإنما هي تعلن أنه حتى إذا كان الله موجودا، فإن ذلك لا يغير من الأمر شيئا . وهذا هو رأينا. إننا لا نعتقد أن الله موجود، ولكنا نعتقد أن مشكلة وجوده ليست هي بيت القصيد. والوجودية بهذا المعنى متفائلة، فهي مذهب عمل. وإنها لخيانة صريحة من المسيحيين ألا يميزوا بين يأسهم ويأسنا، ثم يقولوا إنا يائسون. ⋆
المصادر ⋆
المقتطفات كلها من كتاب «الوجودية» لجان بول سارتر.
نامعلوم صفحہ