آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
اصناف
إذا كنا نود أن نمهد لعمل السلام في أذهان الناس وفي وعي الأمم، فلن يكون ذلك إلا إذا اقتنعت العقول بشدة بمثل المبادئ الآتية: إن السياسة الطيبة هي أولا وقبل كل شيء السياسة العادلة. على كل شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشعوب الأخرى، وتطورها وتقاليدها، وحاجاتها المادية والمعنوية، وكرامتها الصحيحة ودورها التاريخي؛ لأن كل شعب لا ينبغي له أن يتطلع إلى مصلحته فقط، بل إلى الصالح العام لمجموعة الأمم كذلك. وهذا التنبه إلى التفاهم المتبادل وإلى الحس بالجماعة المتحضرة يسد الحاجات التي تتطلبها الضرورات الطارئة في عالم سيكون حتما منذ اليوم موحدا، بالرغم من أنه ما زال مقسما تقسيما قاتلا من حيث الأهواء والمصالح السياسية، يسد هذه الحاجات بالرغم من افتراض وجود نوع من الثورة الروحية (على أساس العادات القديمة للتاريخ البشري). إن وضع المصلحة القومية فوق كل شيء آخر وسيلة مؤكدة لفقدان كل شيء. إن مجتمع الأحرار لا يمكن تصوره إلا إذا اعترف بأن الصدق هو التعبير عما هو كائن، والصواب هو التعبير عما هو عادل، وليس هو التعبير عما هو لازم في وقت معين لمصلحة المجموعة البشرية. لا يجوز أن نقضي على حياة الرجل البريء لأنه أمسى عبئا باهظا لا فائدة منه لأمته، أو لأنه يقف في سبيل الأعمال الناجحة لأية مجموعة مهما تكن. إن كل فرد من الناس لديه من الكرامة ما يفترضه صالح الجماعة نفسه، وينبغي لمصلحة الجماعة ذاتها أن تحترم هذه الكرامة، وله كذلك حقوق أساسية معينة وعليه واجبات معينة، باعتباره مدنيا، أو باعتباره شخصا اجتماعيا أو عاملا. الصالح العام يسبق الصالح الخاص. إن دنيا العمل لها الحق في الإصلاح الاجتماعي الذي يقتضيه نمو العمل في التاريخ البشري، وللجماهير حق الإسهام في الثورة الثقافية والروحية العامة. إن مجال الضمائر حرم لا ينتهك. من واجب الدولة من أجل الصالح العام أن تحترم الحرية الدينية كما تحترم حرية البحث. إن المساواة الأساسية بين الناس تجعل التعصب العنصري، والطبقي، والطائفي ، والتمييز العنصري، جرائم ترتكب في حق الطبيعة البشرية وكرامة الفرد، كما تجعله تهديدا قويا للسلام.
إذا أردنا أن نثبت دعائم السلام الذي يكون جديرا باسم السلام، مكينا دائما، في يوم من الأيام بين شعوب العالم، فإن ذلك لا يتوقف على التنظيم الاقتصادي والسياسي والمالي الذي يرتئيه رجال السياسة ورجال الدولة، ولا يتوقف فقط على إنشاء مؤسسة تتجاوز حقا حدود القوميات وتربط بينها على أساس شرعي، مؤسسة مزودة بالوسائل الفعالة للتنفيذ، لا يتوقف على هذا أو ذاك فحسب، وإنما يتوقف أيضا على وعي الناس وعيا تاما لمبادئ عملية مثل التي ذكرت، والتزامهم بها.
ويتوقف أيضا - إذا أخذنا الأمور على علاتها - على ذلك «الروح الأكبر» الذي يحتاج إليه عالمنا بعدما أصبح - كما قال برجسن - أضخم من الناحية التكنولوجية، ويتوقف أيضا على تدفق ظافر لتلك الطاقة الحرة السامية التي تهبط علينا من عل، والتي نعرفها بالمحبة الأخوية - مهما تكن تبعيتنا الدينية أو مذهبنا الفكري - وهو تعريف عبرت عنه الكتب السماوية بأسلوب هز ضمير الإنسان في جميع العصور.
5 (1-6) الإيمان الذي نعيش به
هل هناك إيمان نعيش به؟ هذا هو موضوع السؤال الذي طلب إلي أن أجيب عنه منذ بضع سنوات. وإني لأشك في أن هذه الصيغة من الألفاظ تعرض المشكلة عرضا ملائما. ما هو الضروري؟ ما الذي نحتاج إليه أشد الحاجة؟ هل هو إيمان نعيش به، أو إيمان نعيش له، إيمان نعيش ونموت في سبيله؟! لما كانت حياتنا ذاتها في خطر، فنحن مضطرون إلى أن نعيد الكشف عن إيمان نعيش له ونموت في سبيله.
في تصور الكثيرين من معاصرينا أن الإيمان - الإيمان الذي نعيش به - هو أبعد من أن يعرف بحقيقة ذاتية لا تقبل الجدل، تسمو على الإنسان وعلى الحياة الإنسانية، فهو مجرد شيء يقاس بالشعور الإنساني أو بالحاجات الإنسانية، يستهدف طمأنينة النظام العقلي والاجتماعي لحياة الإنسان، وتأمين الإنسان، وهو يتملك الأرض ويسود الطبيعة. ولقد بات الإيمان بالله تدريجا لعدد كبير من الناس - منذ عهد ديكارت وجون لوك إلى الوقت الحاضر - نوعا من الإيمان يعيشون به. وفي نهاية الأمر تحول الشعور الديني إلى مجال الحياة الإنسانية. إن أسلافنا تعهدوا بالقيام ببحث جريء مستنير ثابت عن إيمان يعيشون به، هو الإيمان بالإنسان، تعهدوا بهذا البحث وتابعوه في أمل ليس له حد. وهذا الإيمان بدا - خلال بعض الأجيال - شديدا قويا، وأدى أعمالا رائعة وإن تكن قابلة للتدهور. والحقيقة الواقعة هي أننا فقدنا الإيمان بالإنسان.
وما نسميه اليوم الوجودية الملحدة هو أقوى مظاهر هذه الحقيقة. كانت وجودية كركجارد هي الشعور بالإيمان الذي يبحث عن الحقيقة التي يشق إدراكها ولا يمكن التعبير عنها. وحتى وجودية هيدجر تبحث عن لغز الوجود عن طريق الشعور الأليم بالعدم. ولكن الوجودية الملحدة، التي بشر بها في السنوات الأخيرة كتاب لم يكونوا سوى مرايا صادقة لعصرهم، لا تعكس ما يلاقيه الإنسان من ألم وهو يواجه العدم، وإنما تعكس تشوق الإنسان إلى العدم وتصرح به. إنها تعبر عن الميل إلى إنهاء الوجود والرغبة فيه. غير أن هذا أمر مستحيل؛ لأن التشوق إلى العدم مع الحكم على الإنسان بالوجود معناه أن يتخلى المرء عن نفسه. والشيوعية - وهي الوجه الأخير من أوجه المذهب العقلي الذي يجعل الإنسان مداره - تعلن في الواقع إيمانها بالإنسان، وتزعم أنها آخر أمل في النظرة المتفائلة. ولكن تفاؤلها هو تفاؤل طاقات المادة والحيل الفنية الجبارة التي تفرض سلطانها. والإنسان فيها يخضع خضوعا تاما لحكم التاريخ مجسدا في فئة اجتماعية. نعم إنها إيمان بالإنسان، ولكن في أي نوع من أنواع الإنسان؟ في الإنسان الجماعي الذي يحرم الفرد حرية العقل، ويتحول إلى إله زائف صادر عن تطور المادة ومناقضات التاريخ؛ وبذلك نضحي بالإنسان الحقيقي، بالشخص البشري، في سبيل عبادة وثنية قاتلة لعظمة الإنسان.
وهنا نتساءل: هل اليأس له الكلمة الأخيرة؟ وهل نحن محاطون بالمأساة من كل جانب؟
الواقع أن العقل يقتضينا أن نؤمن بالإنسان. والآن دعنا نترك عالم الإنسان الحالي وننظر في عالم الطبيعة؛ أعني أن نحدق فيها بالنظر المبسط الذي يخلو من التعقيد. إننا نجد أن السلام السحيق الذي يتجاوز حدود الفرد، والذي ليس منه مهرب - وهو أساس الخير وقوى الوجود العالمية - نجد أن هذا السلام يتخلل الطبيعة في أعماقها، بالرغم من ذيوع قانون النضال والصراع. والإنسان - كجزء من الطبيعة - لديه جوهر طيب في حد ذاته. إننا نرى أن تطور الكون هو عبارة عن حركة دائبة - بالرغم من انحرافها باستمرار - نحو صور أسمى من الحياة والوعي، حركة تنتهي بالفوز النهائي للنوع البشري، حركة تسيرها حرية الإنسان، في حدود إمكانياته البشرية، كما نرى أن التقدم البطيء الأليم للجنس البشري - منذ عهد إنسان الكهف - يدل على وجود طاقات عند الإنسان تجعل أي ازدراء للجنس البشري صبيانيا لا يستند إلى فرض سليم. أنظر بشيء من المحبة إلى أي فرد مهما يكن وسط الجماهير العامة المجهولة من البشرية المسكينة. إنك كلما ازددت معرفة به، اكتشفت فيه مصادر خفية للخير لم يستطع الشر أن يقضي عليها. إن موقف الإنسان العسير ينشأ من أنه ليس من مخلوقات الطبيعة فحسب، ولكنه كذلك من مخلوقات العقل والحرية، وهما عنصران ضعيفان فيه، ولكنهما - مع ذلك - من أسباب قوته التي لا تهد، ومن علامات كرامته الكامنة فيه. ولا يمكن لأي نوع من أنواع الفشل أو لأية لوثة من اللوثات أن تمحو عظمة الإنسان الأصيلة.
أجل، إننا نرى أنه لا بد أن يكون لدينا إيمان بالإنسان. بيد أنا لا نستطيع ذلك؛ فإن خبراتنا توقف العقل عند حد. وقد كان عالم الإنسان الحاضر بالنسبة إلينا كاشفا للشر، حطم كل ثقة فينا. وكم من جريمة شهدنا لا يمكن أن يعوضها أي انتقام عادل، وكم من موت يائس، وكم من مواقف من الامتهان المذل للطبيعة البشرية! إن صورة الأشباح الدموية في معسكرات الإبادة، التي لا تمحى ولا تنسى، قد غشت صورتنا عن الإنسان. وشهوة الحكم الاستبدادي - نازية كانت أو شيوعية - التي تتغذى على ما فينا من أسباب الضعف الخلقي، قد أطلقت الشياطين في كل مكان، وكأن كل ما أحببنا قد تسمم، وكأن كل ما وثقنا به قد فشل. واتجه العلم والتقدم نحو دمارنا، وكياننا ذاته مهدد بالخطر من جراء التحليل الدقيق لقوى العقل والأخلاق. ولغتنا ذاتها قد انحرفت فبات اللفظ غامضا، وكأنه لا ينقل إلا خداعا. إننا نعيش في عالم كافكا
نامعلوم صفحہ