آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
اصناف
وبالرغم من الإمكانيات الكثيرة التي يمدنا بها التحليل النفساني لدراسة القيم دراسة علمية، فإن فرويد ومدرسته لم يستغلوا طريقتهم أكبر استغلال منتج مفيد للبحث في المشكلات الخلقية، بل إنهم في الواقع قاموا بكثير من الخلط في القضايا الكبرى. وينشأ الاضطراب عن موقف فرويد النسبي، الذي يفترض أن علم النفس يمكن أن يعاوننا على فهم الدافع إلى تقدير القيم، ولكنه لا يعيننا على تثبيت صلاحية القيم ذاتها.
إن نسبية فرويد تظهر في جلاء شديد في نظريته عن الذات العليا (الضمير)، وطبقا لهذه النظرية يمكن أن يكون أي موضوع محلا لوخز الضمير إذا كان بالمصادفة جزءا من الأوامر والنواهي التي ينهى عنها ضمير الأب أو التقاليد الثقافية (والضمير وفقا لهذه النظرة ليس إلا السلطة الباطنية). إن تحليل فرويد للذات العليا ليس إلا تحليلا ل «الضمير المتسلط».
ومهما يكن من شيء، فإن موقف فرويد ليس دائما نسبيا بأية حالة من الحالات. إنه يبدي إيمانا حارا بالحقيقة باعتبارها الهدف الذي ينبغي للمرء أن يجاهد في سبيله، وهو يعتقد في قدرة الإنسان على هذا الجهاد ما دامت الطبيعة قد وهبته العقل، وهو يعبر عن هذه النظرة التي تناقض النسبية تعبيرا واضحا في مناقشاته ل «فلسفة الحياة»، وهو يعارض النظرية التي تقول بأن الحق ليس إلا نتيجة لحاجاتنا ورغباتنا؛ لأنها تصاغ تحت ظروف خارجية متغيرة. وفي رأيه أن مثل هذه النظرية الفوضوية «يتقوض في اللحظة التي يحتك فيها بالحياة العملية». واعتقاده في قوة العقل وقدرته على توحيد البشرية وتحرير الإنسان من قيود الخرافة يتميز بما تتميز به فلسفة عصر النور من عطف وحنان. وهذا الإيمان بالحقيقة ينضوي تحت فكرته عن العلاج بالتحليل النفساني. إن تحليل النفس هو محاولة الكشف عن حقيقة الفرد. وفي هذا الاتجاه يواصل فرويد الفكر التقليدي الذي يعتقد - منذ بوذا وسقراط - في الحق باعتباره القوة التي تجعل الفرد فاضلا وحرا، أو بتعبير فرويد «صحيحا». إن الهدف من العلاج بالتحليل هو إحلال العقل (أو الذات) محل الجانب الذي لا يعقل؛ فالموقف التحليلي يمكن تعريفه من هذه الزاوية بأنه الموقف الذي يكرس فيه اثنان - هما المحلل والمريض - نفسيهما للبحث عن الحقيقة. والهدف من العلاج هو إعادة الصحة، والعلاج هو الحق والعقل. وربما كان أقوى تعبير عن عبقرية فرويد هو افتراضه موقفا يقوم على الصراحة الشديدة في وسط ثقافي تندر فيه مثل هذه الصراحة. ⋆ (1-3) الأخلاق الإنسانية
الأخلاق الإنسانية التي يكون فيها «الخير» مرادفا ل «خير الإنسان»، و«الشر» مرادفا ل «شر الإنسان»، تفترض أنا لكي نعرف ما هو خير للإنسان لا بد لنا من أن نعرف طبيعة الإنسان (الأخلاق الإنسانية هي العلم التطبيقي ل «فن الحياة» الذي يقوم على أساس «علم الإنسان» النظري). وهنا - كما في أي فن آخر - يكون الامتياز في عمل الإنسان متناسبا مع مقدار ما يعرفه الفرد عن علم الإنسان ومع مهارة الفرد ومرانه. غير أن الفرد يمكنه أن يستنتج المعايير من النظريات في حالة واحدة فقط، وهي التسليم بأن هناك ناحية معينة من نواحي النشاط ينتقيها المرء، وهدفا من الأهداف يبغيه. إن الفرض في علم الطب هو أن علاج المرض وإطالة العمر من الأمور المرغوب فيها، فإن لم يكن الأمر كذلك فإن كل قواعد علم الطب تصبح غير ذات موضوع.
إن كل علم تطبيقي يقوم على أساس فرض ينشأ عن عملية الانتقاء، أعني أن تكون الغاية من النشاط مرغوبة. بيد أن هناك فارقا بين الفرض الذي ينضوي تحت الأخلاق، والفرض الذي ينضوي تحت الفنون الأخرى. نستطيع أن نتصور ثقافة فرضية لا يريد فيها الناس أن يعيشوا. إن الدافع إلى الحياة كامن في كل كائن عضوي، ولا يسع المرء إلا أن يعيش بغض النظر عما يود أن يعتقد في هذا السبيل.
2
إن الخيار بين الحياة والموت أمر ظاهري وليس حقيقة من الحقائق. أما الخيار الحقيقي عند الإنسان فهو بين الحياة الطيبة والحياة السيئة.
ومن الشائق هنا أن نتساءل: لماذا فقد زماننا فكرة «الحياة كفن من الفنون»؟ فالظاهر أن الإنسان الحديث يعتقد أن القراءة والكتابة من الفنون التي تتعلم، وأنه لكي يصبح المرء مهندسا معماريا، أو مهندسا ميكانيكيا، أو عاملا ماهرا، لا بد له من قدر كبير من الدراسة، ولكنه يعتقد أن «العيش» أمر من السهولة بمكان بحيث لا يحتاج إلى جهد معين لكي يؤدي. ولأن كل إنسان «يعيش» بطريقة ما، تعتبر الحياة أمرا يعد فيه كل فرد خبيرا. ولقد أتقن الإنسان فن الحياة إلى حد ما، ولكن فقدانه الإحساس بصعوبته لا يعزى إلى ذلك. ومن الواضح أيضا أن هذا الأمر لا يفسره كذلك ما يسود الناس من فقدان للمتعة الحقيقية والسعادة الصادقة اللتين يمكن أن يستمدهما من عملية الحياة ذاتها؛ ذلك أن المجتمع الحديث - بالرغم من كل ما يؤكده عن أهمية السعادة والفردية والمصلحة الذاتية - قد علم الإنسان أن سعادته (وإذا جاز لنا أن نستعمل اصطلاحا دينيا قلنا خلاصه) ليست هي الهدف من الحياة، وإنما هدفها أداء واجبه نحو العمل أو نجاحه؛ فالمال والمركز الاجتماعي والنفوذ باتت هي دوافعه وغاياته، وهو يعمل متوهما أن نشاطه يعود بالنفع على مصلحته الذاتية، ولكنه في الواقع يخدم كل شيء إلا مصالح نفسه الحقيقية، كل شيء يهمه إلا حياته وفن الحياة. إنه لكل شيء، ولكن ليس لنفسه.
وإذا كانت الأخلاق تؤلف مجموعة الأنماط التي تؤدي إلى التفوق في ممارسة فن الحياة، فلا بد أن تصدر قواعد الأخلاق العامة عن طبيعة الحياة عامة والوجود البشري خاصة. وطبيعة الحياة كلها - على وجه عام - هي أن تحتفظ بوجودها وتؤكد؛ فلدى كل كائن عضوي ميل كامن نحو الاحتفاظ بوجوده. ومن هذه الحقيقة افترض علماء النفس وجود «غريزة» حفظ الذات. إن أول «واجب» للكائن العضوي هو أن يحيا.
و«بقاء الإنسان حيا» فكرة ديناميكية وليست فكرة استاتيكية ثابتة (والوجود والكشف عن القوى الخاصة للكائن العضوي أمر واحد). ولدى كل كائن عضوي ميل كامن إلى إخراج إمكانياته الخاصة إلى حيز الواقع؛ وإذن ف «الهدف من حياة الإنسان» يجب أن يفهم على أنه الكشف عن قواه طبقا لقانون طبيعته.
نامعلوم صفحہ