آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
اصناف
ولد إدوارد مورجان فورستر في لندن في أول يوم من أيام عام 1879م. ويستطيع فورستر أن يزعم لنفسه ميراثا من امتياز الطبقة الوسطى المثقفة، عن طريق أسرة أمه. أما عن طريق أبيه، الذي كان مهندسا معماريا من أصل مختلط من الإنجليز والويلزيين، فإن الكاتب يستطيع أن يزعم لنفسه شيئا أقل من ذلك صلابة ولكنه أشد تحررا، وذلك هو الميل نحو الابتكار الخيالي. وقد كتب فورستر عن تربيته الأولى حينما كان تلميذا «خارجيا» بمدرسة تنبردج، حيث كانت إحساساته الأليمة من عدم شعوره بالامتزاج بالمدرسة تصطحب بتصور أشد لما يمكن أن يعنيه الامتزاج بها من مصير أشد للنفس تحطيما. وقد وجد البلسم الشافي لروحه الجريحة في كلية كنج بكمبردج، ذلك المركز العلمي الذي ربطته به علاقة ودية دامت مدى الحياة. وهناك - كطالب - اكتسب صداقة ج. لويس دكنسن، الذين رحل معه بعد بضع سنوات إلى الهند. وبعدما انتهى من دراسته بالكلية بوقت قصير قصد إيطاليا حيث كتب بعض رواياته الأولى. ولما عاد إلى إنجلترا في عام 1907م ألقى بعض المحاضرات بكلية العمال، ثم أتم روايته «الغرفة ذات المنظر»، كما أتم روايته «هواردز إند» في عام 1910م. وقبيل الحرب العالمية الأولى اشتغل فورستر بالصحافة الأدبية، ومارس كتابة المسرحيات، وفي أثناء رحلته إلى الهند مع دكنسن شرع يسجل الملاحظات تمهيدا لرواية عن الهنود وعن الإدارة الاستعمارية البريطانية، ومشكلة الإمبراطورية. وخلال الحرب العالمية الأولى اشتغل فورستر بشئون الحرب في الإسكندرية، ولم يعد إلى لندن حتى أعلن السلام، ومكنته رحلة ثانية إلى الهند في عام 1921م من إتمام مذكراته لإخراج الرواية. وفي عام 1924م نشر «رحلة إلى الهند» التي نالت جوائز أدبية عديدة، ومن بينها جائزة «جيمز تيت بلاك مموريال». وفي عام 1927م دعا فورستر إلى إلقاء محاضرات كلارك السنوية بكلية كنج في كمبردج، وقد اختار موضوعا لمحاضرته «أوجه الرواية» الذي ظهر فيما بعد على شكل كتاب بهذا العنوان.
وبالرغم من أن فورستر من الناحية الدستورية بعيد كل البعد عن النشاط السياسي، فإن اهتمامه بالثقافة، واعتمادها - الذي لا محيص عنه - على الحرية، جعله على وعي تام بالتطورات السياسية في هذا القرن. وقد استعرض الفترة التي تقع بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ونعتها بأنها «المدخل النحس إلى عصرنا الحاضر». وفي إذاعة له في أثناء الحرب العالمية الثانية ضد النازية قال: «إنني بحكم مهنتي ككاتب، لا أعرف شيئا عن الاقتصاد أو السياسة، ولكني شديد الاهتمام بما يسمونه بالثقافة - وهي تسمية ملائمة - وأريد لها الازدهار في العالم كله.» وبهذا الالتزام دخل فورستر المعركة ضد حكم الاستبداد، وضد مبادئه في الرقابة، وضد العدو الداخلي، الذي يسمم الجو الذي تتنفس فيه الحرية الفردية بعدم التسامح والتحيز العنصري والتعصب الذميم. ويعترف ليونل نزلنج للرجل بقدره في كتاب له عنه، يقول فيه: «إنه أحد رجال الفكر الذين لم يؤد بهم تفكيرهم قط إلى الزعم بأنهم فوق البشر، والذين لا ينزلون عن مستوى البشر إذا أحاطت بهم ملمة من الملمات.»
والمختارات التالية مأخوذة عن كتاب «تحيتان للديمقراطية»، وهو مجموعة مقالات نشرت في عام 1951م. (1) دفاع عن الفردية
إ. م. فورستر (1-1) الاعتقاد في الأشخاص
إنني لا أعتقد في «العقيدة». غير أن عصرنا هذا عصر الإيمان، ومن حولنا مذاهب كثيرة مجاهدة، بحيث يتحتم على المرء دفاعا عن نفسه أن يكون لنفسه مذهبا من المذاهب. وفي عالم يكاد يتمزق من الاضطهاد الديني والعنصري، في عالم يسوده الجهل، والعلم - الذي كان ينبغي أن يسود - يلعب دور التابع الإمعة، في مثل هذا العالم لا يكفي التسامح والعطف وحسن المعاملة، بالرغم من أن هذه الصفات هي التي تهم الإنسان فعلا، وإذا كان الجنس البشري لا ينهار فلا بد لها أن تكون في الطليعة قبل أن ينقضي وقت طويل، ولكنها صفات لا تكفي في الوقت الحاضر، ولا يزيد أثرها قوة عن أثر زهرة محطمة تحت حذاء عسكري، فهي تنقصها الصلابة، حتى إن كانت تخشوشن بالممارسة. والإيمان في نظري هو الذي يكسبها الصلابة، فهو أشبه بالدعامة العقلية التي يجب ألا تقام إلا بالقدر الضئيل جهد الاستطاعة. وإني لشديد الكره لهذه الطريقة، ولا أعتقد فيها البتة لذاتها، وأختلف في هذا عن أكثر الناس الذين يعتقدون في «العقيدة»، بل إنهم ليتأسفون لأنهم لا يستطيعون أن يستسيغوا منها أكثر مما فعلوا. وإني لأستمد الشريعة من أرازمس ومونتيني، ولا أستمدها من موسى والقديس بطرس، ولا أقيم معبدي فوق جبل مقدس، وإنما أقيمه في جنة الفردوس التي يدخلها حتى من ليس على خلق، وشعاري هو: «يا إلهي، إني لا أعتقد، فاللهم أعني على عدم الاعتقاد.»
ولكني أعيش في عصر الإيمان - وهو نوع العصر الذي كنت أسمع عنه الإطراء أيام الصبا. إنه عصر لا يسر البتة حقا، وهو عصر دماء بكل ما تحمله الكلمة من معان، وعلي أن أحتفظ بهدفي فيه، فمن أين أبدأ؟
إنما أبدأ بالعلاقات الشخصية، ففيها ألتمس شيئا ثابتا نسبيا في عالم مليء بالعنف والقسوة، وهو ليس ثابتا كل الثبات؛ لأن السيكولوجيا قد شققت ومزقت فكرة «الشخص»، وبينت لنا أن لدى كل منا ناحية لا تخضع للتعليل، وهي ناحية قد تطفو على السطح في أية لحظة من اللحظات وتحطم فينا الاتزان العادي. إننا لا نعرف حقيقة أنفسنا ، ولا نستطيع أن نعرف حقيقة غيرنا؛ فكيف إذن نستطيع أن نضع أي ثقة في العلاقات الشخصية، أو نتمسك بها وسط العاصفة السياسية؟ إننا من الناحية النظرية لا نستطيع ذلك، ولكنا نستطيعه من الناحية العملية. فإذا كان زيد من الناس ليس زيدا ثابتا لا يتغير، أو كان عمرو ليس عمرا ثابتا لا يتغير قط، فإنه من الممكن - برغم هذا - أن تقوم بينهما محبة وإخلاص، وعلى المرء - لأجل أن يعيش - أن يفترض أن الشخصية ثابتة لا تتغير، وأن «النفس» وحدة لا تتجزأ، وأن يتجاهل كل ما يناقض ذلك. وما دام تجاهل الدلائل المناقضة خصيصة من خصائص الإيمان، فإني أستطيع أن أعلن بكل تأكيد أني أعتقد في العلاقات الشخصية.
فإذا ما بدأت بها استطعت أن أجد شيئا من النظام في الفوضى المعاصرة. يجب على المرء أن يغرم بالناس وأن يثق بهم إذا كان لا يريد أن يعبث بالحياة؛ ومن ثم فإنه مما ليس منه بد ألا يخوننا الناس. ولكنهم كثيرا ما يفعلون. ومغزى ذلك أنه ينبغي لي - عن نفسي - أن أكون محل ثقة ما استطعت، وهذا ما أحاوله. ولكن الثقة ليست من الأمور التي يتعاقد عليها الناس - وهذا هو الفارق الأساسي بين عالم العلاقات الشخصية وعالم العلاقات في العمل - إنما هي أمر من أمور القلب الذي لا يوقع على وثيقة من الوثائق. وبعبارة أخرى، الثقة مستحيلة ما لم يكن هناك دفء طبيعي. وأكثر الناس لديهم هذا الدفء، غير أن سوء الحظ قد يصادفهم فتنطفئ جذوته. وأكثرهم - حتى إن كانوا من الساسة - يودون لو احتفظوا بإيمانهم. وهنا يستطيع المرء - مهما يكن من شيء - أن يبرز ضوءه الخافت هنا، وأن يظهر شعلته المرتعشة الصغيرة الضعيفة، مع العلم بأنه ليس وحده الضوء الوحيد الذي ينير في الظلام، وليس وحده الضوء الذي لا يشمله الظلام. إن العلاقات الشخصية تزدرى اليوم، وتعد من ألوان الترف البرجوازي، وكأنها من ثمار الجو المعتدل الذي انقضى عهده وفات، ويحثنا الناس على أن نتخلى عن هذه العلاقات، وأن نكرس أنفسنا لحركة من الحركات أو قضية من القضايا بديلا عنها. وإني لأمقت فكرة القضايا، ولو خيرت بين أن أخون بلادي أو أخون صديقي، لرجوت أن أجد الشجاعة لأن أخون بلادي. ومثل هذا الاختيار قد يسيء إلى القارئ الحديث، وربما مد يده الوطنية إلى التليفون في الحال واستنجد برجال الشرطة. ولكن ذلك ما كان ليصدم دانتي؛ فلقد ألقى دانتي ببروتس وكاسيس في أسفل جحيم لأنهما آثرا أن يخونا صديقهما يوليوس قيصر على أن يخونا وطنهما روما. وربما لا يطلب إلى المرء أن يقوم بمثل هذا الاختيار - الأليم - غير أن كل مذهب، بالرغم من هذا، وراءه شيء مزعج شاق لا بد أن يعانيه معتنق المذهب، في يوم من الأيام، وفي مذهب العلاقات الشخصية كثير من الرعب والمشقة، على المرء أن يتحمله مهما خف أو هان. إن الحب والإخلاص لفرد من الأفراد قد يتعارضان مع مطالب الدولة، وعندئذ أقول: لتسقط الدولة، وليس معنى ذلك إلا أن تسقطني الدولة.
1 (1-2) تحدي زماننا
أنا فردي بمزاجي، أنا كاتب، ومؤلفاتي تؤكد أهمية العلاقات الشخصية والحياة الخاصة؛ لأني أعتقد فيهما. وماذا يستطيع رجل مثلي بهذا الاستعداد، ليست لديه معرفة تكنولوجية، أن يقول عن تحدي زماننا؟
نامعلوم صفحہ