يجب أن أحافظ في هذه الكلمة على قاعدة التناسب، فلا أستوقف القارئ إلى حد الملل في الباب، وهو - ولا شك - يود أن يقرأ أناتول فرانس لا أن يقرأني، فأقف في النظر بنبوغه عند هذا الحد، إذن لأقول كلمة وجيزة في حياته ومؤلفاته.
لم يكن هذا الإفرنسي العظيم من خريجي الكليات العالية، ولكنه تلقن علومه من أساتذة في الحياة في ثلاث مدارس مهمة؛ أولها مدرسة أبيه، وقد كان كتبيا وثقة في التاريخ، فقد ولد أناتول
1
سنة 1844 في المكتبة، ودب ودرج بين الكتب والأوراق، ثم دخل في خدمة عبراني يتاجر بالتحف والآثار الفنية، فتشرب روح الفنون من الأمثال لا من الأقوال، وبعد ذلك دخل الجامعة الكبرى؛ جامعة الحياة، فطالع الكتب الحديثة والقديمة فيها، هام بما شاهده في شوارع المدينة، وبما شاهده في المتاحف الوطنية، هام بالصور الناطقة والصامتة، وبما تمثله، بما تظهره وتكنه من الأسرار ومن المسرات الأحزان، وقف مدهوشا معجبا أمام صفحات ملونة لا معنى ظاهر لها ولكنها جميلة، وصفحات سوداء معانيها مشوشة، وصفحات هامشها أحسن ما فيها، وصفحات كتبت بالدم، وأخرى بالدموع، وغيرها مما كتب ذاك الذي غلب خالقه، فكان بعدئذ مدحورا في هذه الكتب الحية الناطقة، درس أناتول فرانس الحياة بعد أن ساح وغاص وتغلغل في كتب أبيه.
ثم بدأ يكتب ما أوحي إليه بخصوصها، فألف ثم ألف حتى تجاوزت رواياته الثلاثين، وهناك مؤلفات عدة في النقد الأدبي والتاريخ، ولكنه لم يطبع له كتاب قبل أن بلغ الخامسة والثلاثين من سنه، فظهرت في سنة 1879 روايته الأولى وهي «جوكاستا والهر الجائع»، ثم بعد سنتين طبعت الرواية التي كللتها الأكاديمية الفرنسية، وهي التي تدعى «ذنب سلسفتر بنار»،
2
ولكن الأكاديمية لم تنتخبه عضوا فيها إلا بعد خمس عشرة سنة من ظهور هذه الرواية الممتازة في جمالها الرائع الهادي.
وقد كان انتخابه - ولا شك - من باب التعويض والموازنة؛ لأن الأكاديمية التي لا تخطئ لا تصيب، وإن أجمل كلمة قيلت فيها هي التي ستقرأ في الصفحة الأولى من هذا الكتاب، وقد أحسن المترجم الاختيار والتوازن فيه.
ولكن محاسن أناتول فرانس كلها لا تظهر في آرائه، بل في الروايات التي هي مسرح فنه، وعلمه، وخياله، وحكمته، هناك يتمثل لك التساهل بكليته، والتوازن والإنصاف في الأحكام، والحكمة التي لا تخلو قطعا من العطف الجميل، والعلم الخالي من التنطع، والسخرية الخالية من السم، وتلك الروح الخفيفة السامية - السامية - المقرونة بفكر ثاقب كالنور، جلي كالبلور، دقيق كالأثير، منور كالربيع، مثمر كالصيف.
إن أناتول فرانس قريب دائما من الأرض، حتى فيما تسامى من فكره وخياله، وقريب كذلك من السماء التي يبغيها للإنسان في هذا العالم، وإن كان من أركانها ركن أو ركنان للأوهام.
نامعلوم صفحہ