وهبت واقفة، فبدا قوامها الأشم في الثوب الأبيض كأنه عمود من الرخام، وسارت نحو الغرفة، فتبعتها وأغلقت الباب، وقالت وهي تنضو ثوبها بصوت لا حياء فيه: من مصر على ما أظن؟ - أجل! - اسمك؟ أوه لقد نسيته مع أن ليون ذكره لي. - لا بأس، لعله ضاع في زحمة الأسماء.
ولم تعن بملاحظتي، بل قالت وهي تسوي ثوبها فوق المشجب: إنني أعرف من مصر فلانا وفلانا وفلانا، لقد كانوا هنا في حيفا، فلان الضابط كان هنا منذ أسبوعين، إنه شاب لطيف وكريم، لقد دعاني لزيارة مصر، لكن للأسف، مصر لا ترحب بنا كثيرا - على ما يقولون - وليس لي أقارب هناك.
كانت قد أتمت مهمتها فقفزت إلى الفراش، وجلست مسندة رأسها إلى الوسادة، وكنت أنا واقفا في وسط الحجرة، جامدا، كالتمثال، أنظر إليها دون حركة، فقالت: ما لك تقف هكذا؟ ألن تبقى معي؟
وقلت وأنا أمضي نحو المرآة: لا أظن ذلك.
وهبت من الفراش فزعة، وقالت وهي تلبس حذاءها: ماذا تظن؟ إنك لن تسترد مني ملا واحدا، لقد رأيتني أكثر من مرة، ثم إنني سأقضي الليل هنا، وعليك أنت أن تذهب، إن الساعة الآن قد تعدت الواحدة، ولا أستطيع أن أعود إلى داري.
وقلت ببرود: اهدئي يا سيدتي، لك ما أخذت، ولك فوق ذلك طعام الإفطار لاثنين، لقد دفعته للفندق مقدما، وهاك علبة سجائر، تستطيعين أن تنفثي مع سحائب دخانها أنفاس الندم، إذا أحسست بخطئك معي!
وتحركت لأسير، وشارفت باب الحجرة، فصاحت مترفقة: اسمع، لدي اقتراح، إلى أين تذهب الآن؟ - إلى الناحية الأخرى من المدينة، حيث الفندق الذي أقيم فيه. - إن الوقت متأخر، ومن مصلحتي ألا أظل وحدي في الحجرة، هذا المقعد الطويل، ألا يصلح؟ - حسنا، سأبيت هنا على المقعد، إنه كرم منك يا سيدتي. - بل فن التجارة أن لا أغضب حتى من يرفض السلعة، رغم جودتها.
وضحكت، ضحكت ضحكة بدا فيها أنها تحاول طرد سحب الكدر التي ملأت نفسي، لم يكن هناك بد من أن أرد فقلت: إنني لم أرفض السلعة ولم أطلبها، طلبت صنفا آخر، لكن التاجر - سامحه الله - تاجر جشع، يختزن السلع الطيبة، يريد أن يثرى من الحرب، ألا يعاقبون هنا على إخفاء السلع؟
وقالت وهي تغالب نفسها: أما إنني أريد أن أثرى من الحرب، فهذا صحيح، لكنني أثرى من عرض السلعة التي أملكها لا من اختزانها، ماذا تظنني أختزن؟ - تختزنين كل شيء، وتعرضين شيئا سامحيني إذا قلت تافها، شيئا يزخر به شاطئ البحر كل مساء، كأنه الحشائش التي لفظها الماء، شيئا لا أطلبه وإن كنت دفعت ثمنه، أنا أطلب شيئا تختزنينه رأيته بعيني، لم أجد سبيلا إليه غير ما فعلت، لكنني للأسف مخطئ، ضللت الطريق كما قلت أنت أولا.
وقالت في حيرة: ولكنني لا أختزن شيئا، أتريد أن تجلس في الشرفة؟ أهذا كل ما تريد؟ - عندما رأيتك في مقعدك، وقد اتكأت بساعديك على المنضدة، وسجلت عيناك في الأفق، وقد لمع في إشعاعهما حزن غريب، أحسست أن هناك روحا، سألت ليون كبير الخدم عنك، فصدمني بأرقام التسعيرة التي يجب أن أدفعها لكي أحظى بك.
نامعلوم صفحہ