وما كان فينا من يجيب. كانت رءوسنا إذ ذاك تستعيد كل يوم قضاه بيننا منصور، وننتهي إلى ذلك اليوم القريب الذي سنقف فيه لتوديعه! ولن أنسى أبدا ذلك اليوم، لن أنسى وداع منصور الحار لكل منا، لن أنسى قبلته الجياشة التي طبعها على جبين سيد، أصغر أفراد أسرتنا، لا أدري لم لازمت خيالي تلك القبلة طوال اليوم، وارتبطت في نفسي بقبلة أمي الأخيرة، التي طبعتها على جبين أخي الأصغر ، وهي تودع الحياة! ومرت الأيام بعد فراقنا لمنصور وئيدة متباطئة، وانقضى الأسبوع الأول والثاني، وبدأ شبح رب الأسرة يبعد، وبدأت الأسرة تستحيل من جديد إلى زمالة عمل، وزال هذا السحر الذي كان يصور لنا حجرتنا كأنها منزل إخوة أربعة، وعدنا من جديد إلى المكاتب الخشبية، والأوراق الجافة الميتة، وأحاديث الأرقام والأعداد، رجعنا آلات في عجلة الحكومة.
وكنت منكبا على عملي، حين انتبهت على صوت سيد يصيح في استنكار: الله! مستحيل؟
ورفعت رأسي فرأيت سيد يقلب في حزمة أوراق، محملقا فيها ورقة ورقة وهو يردد: هذه الأوراق؟! إنه خطي أنا!
وقمت أنا وحامد، وسرنا نحو سيد لنرى ما حدث، فدفع إلينا بما في يده من أوراق قائلا: خذوا! اقرءوا! هذا مستحيل!
وأمسكت بالأوراق وأخذت أتأملها، كانت خاصة بمناقصة رست على أحد المقاولين، ومضى المقاول في عمله بضعة شهور، ثم توقف طالبا صرف جزء كبير من قيمة أجره، وقد طلبت إلينا المصلحة الحكومية المختصة أن نقرر ما نراه فيما أتمه المقاول من عمل، وهل يعادل ما يطلب من قيمة الأجر، لتنظر في طلبه على أساس هذا التقدير.
وقفزت عيني إلى نهاية الأوراق، فقرأت إقرارا بجواز صرف المبلغ الذي يطلبه المقاول، قد وقع عليه منصور بإمضاء واضح، فلما أمسكت بالورقة الأخيرة وجدتها خطابا من المصلحة المذكورة تنبهنا فيه إلى خطئنا، وتنبئنا أنها قد تداركته، وتطلب من الوزارة اتخاذ ما ترى نحو المتسبب في هذا الخطأ.
وبدا الأمر طبيعيا في نظري؛ هذا الخطأ هو الذي أطار من بيننا منصور، فما دخل سيد في الموضوع؟
وكأنما أدرك سيد حيرتي فقال منفعلا: لم تفهموا طبعا؟ أنا أشرح لكم، هذه الأوراق خرجت من عندي، أنا الذي راجعتها، وأنا الذي أخطأت، وهنا كل إمضائي المختصر ... مكان توقيع منصور الكامل هذا ... انظروا إذن على من وقع الجزاء ... عليه هو! كيف حدث ذلك؟!
ووقفنا ثلاثتنا حائرين، وقال حامد ذاهلا كأنه يحادث نفسه: وما العمل؟
وصاح سيد وهو يطوي الأوراق تحت إبطه: العمل؟! العمل أنه يكفي خطأ واحد، سأصحح ما حدث !
نامعلوم صفحہ