وقال أبوه وهو يبسم في أسى: سنبحث عن دار أخرى، وسنغادر هذا الحي بأكمله. وغادرت الأسرة الحي بعد أيام.
ودارت السنون تطوي طريق حياته الطويل، فتخرج من كليته وسافر إلى الخارج وعاد إلى الريف، وتزوج وأنجب أولادا، وفقد أباه وأمه.
خطت الحياة أخدودين عميقين في صفحة فؤاده، طالما تعثرت فيهما لحظات الهناء.
وبالأمس فقط مر من الشارع القديم، فأحس أنه يخوض عباب الذكريات. لقد تغير في الشارع كل شيء؛ لقد غدا شيئا آخر لا يعرفه! لكن خياله مع ذلك قد استطاع أن يعيد الماضي ، يعيد الشارع القديم بكل ما فيه، استطاع أن يرى الدور القديمة بمشربياتها المتقابلة المتعانقة، واستطاع أن يرى شبح «سناء»، يكبر رويدا رويدا، ويملأ الشارع، ويطوي خلفه نعيما تقضى منذ عشرين عاما!
ظل ابتسامة
لكأنما تعب القطار من طول الرحلة، فراح يتهادى في بطء، وكأنما عجلاته أقدام عجوز يئودها السير.
وصاح الجالس بجواره وهو يستجمع أطراف ردائه: حصلنا على مزيد الشرف يا أستاذ! احنا نازلين هنا في «بنها».
وهب واقفا يحيي الجيش النازل - جيش الموظفين الذاهبين إلى مقر عملهم. من الصالون الذي جلس فيه نزل سبعة ولم يبق إلا هو، سبعة في خلال الأربعين دقيقة التي جمعهم فيها القطار صاروا أصدقاء، وكأنه يعرفهم من سنين طويلة.
وأطل ببصره من فناء المحطة فوجدهم فعلا كالجيش، لكأنما نزل كل ركاب القطار، خطر له أنه ربما كان الراكب الوحيد الذي لم ينزل في «بنها»؛ البلد الذي ولد به.
وتحرك القطار ثانيا، وتحركت يده تحيي أصدقاءه السبعة الذين توقفوا عن الخروج لحظة، ولوحوا له بأيديهم، وما كادوا يسيرون حتى بدأ يتأمل ما حوله، وجالت عيناه في واجهات المباني والطرقات، وجالت خواطره، ترى أين ولد في هذه المدينة، وفي أي مكان منها؟
نامعلوم صفحہ