أما لفظة «أجبت» الإفرنجية فأرجح الأقوال أنها مأخوذة من كلمة «حا كابتاح»، وهو اسم بلدة منف بإطلاق الجزء على الكل. وقد تسمى مصر أحيانا «حب ن. ساس» إقليم الستة أيام أو إقليم الخمسة أيام؛ أي أيام النسيء للأشهر القمرية.
التدرج الذي أدى إلى تكوين المقاطعات
أهل البادية الرحل ليس لهم متاع سوى العقار المنقول، ولأجل أن يسهل علينا ذكر الأسباب التي نستقي منها معلوماتنا عن عصر ما قبل التاريخ في مصر بصورة محددة، نرى أنه من المهم أن نبين باختصار صورة عن تكوين الأفكار الفطرية القانونية في المجتمعات الناشئة؛ فالإنسان يصبح مالكا للشيء الذي يكون في قدرته أن يحافظ عليه؛ ولذلك لا يتأتى له إلا بعد أن يضعه بيده أو يستولي عليه من الغير؛ ولذلك فإن كل رجل يصبح مالكا لامرأة أو عدة نساء قد استولى عليهن. وتختلف العلاقات بين الرجال والنساء حسب عيشة القوم الرحل؛ فإنهم إما يكونون جماعات أو متفرقين، ففي الحالة الأولى يسود الاختلاط الجنسي؛ ومن ثم يصبح والد الطفل مجهولا، وينسب إذن الولد لأمه، وكانت تلك هي الحال السائدة، غير أن الأمومة هي نتيجة لحقيقة وقعت، والمرأة تجري وراء حماية أخيها لها، والأخ بدوره يقف بجانبها بهذا المظهر نفسه. وقد كان ذلك يحدث في زمن كان فيه كل من الحماية والملكية لفظين مترادفين، فكان الأخ بذلك سيد أخته ورب أطفالها.
والواقع أن الحاجة للأمن ولسيادة السلام بين رجال الجماعات قد أفضت إلى إيجاد قاعدة أساسية ترتكز على أفكار تسحر القلوب، وسرها الاختلاط الجنسي. بذلك كانت عادة عدم التزوج من خارج أفراد الأسرة أو العشيرة لتجنب قيام المشاحنات بين الرجال، وتحديد عدد النسوة اللائي كان يمكن لكل رجل أن يستولي عليهن. ومع ذلك نجد أن الأسرة عند الرحل المتفرقين - وكان هذا أمرا مؤقتا - تظهر تحت سيطرة الرجل الذي كان يصحب معه في ترحاله امرأة أو عدة نساء؛ فكان بطبيعة الحال يسهر على حمايتهن وحماية أطفاله الذين ولدوا له منهن. ومن هذا نرى أن أول صورة كانت ترتكز على ملكية الرجل للمرأة، ومما لا شك فيه أنه من نتائج المؤسسات الزراعية الأولى الاستقرار مؤقتا في بقعة من الأرض، وهو أمر حتمته الزراعة. على أن هذا الاستقرار تفريق لشمل الجماعات؛ ومن ثم كان تكوين الأسرة؛ فالرجل يعيش على حقوله ومعه زوجات، ولكن الزراعة تحتاج إلى أيد عاملة، وبذلك تصبح الأولاد ثروة له. ومنذ ظهور تلك الخطوة تصير الأسرة أكثر ارتباطا؛ إذ يحرص الرجل على استمرار بقاء أولاده معه؛ لأنهم صاروا أعوانه في مهام الحياة. وقد استقر المصريون بصورة نهائية في وادي النيل في العصر الحجري المتوسط، والنتائج الشرعية لاستقرار العشيرة عديدة مركبة؛ فالنظام الأسري الذي كان قد تكون نهائيا في ظل النظام الشبه الزراعي أو الشبه الرعائي، كان من نتائجه تأليف جماعات من الأسر تربطها ببعضها البعض رابطة الدم. وقد تكون فيها عشائر منحدرة أو شبه منحدرة من جد واحد مشترك، ففي مثل هذه الأسر يكون الأب هو صاحب السيادة المطلقة والمالك لزوجته وأولاده، وهو الممثل الوحيد لكل أهله، كما أنه يكون سيدهم وقاضيهم الذي يفصل بينهم، ويظهر سلطانه المستمد من قوته عليهم في بادئ الأمر بصفة ملموسة.
على أن هذا السلطان لا يستمر مدة طويلة إلا بقدر استمرار قوته على جعل نفسه محترما بينهم، فإذا طعن الأب في السن أو خارت قواه، فإن ابنه الأكبر يحتل مكانته، وأولاده الذكور يؤسسون أسرات متميزة بعضها عن بعض. وتكوين العشائر التي تنحدر من جد واحد تأتي بنتائج جديدة؛ فوجود العشيرة مفروض فيه حتما وجود اجتماعات تعقد بين رؤساء الأسرات؛ فيجتمعون لتقرير مصالحهم المشتركة؛ وهم بذلك يتعاضدون معا للمحافظة على سلطانهم المتبادل، ويؤلفون مجلسا يمثل فيه كل عضو أسرته، على أن ذلك التمثيل لا يدل على أن هذا العضو هو أقوى فرد في أسرته، ولكن يدل على أنه الوالد فحسب؛ ومن ثم تكتسب السلطة الأبوية بهذه الصورة صبغة خلقية، هذه الصورة لا يرجع أصلها للقوة ولكن للتشريع؛ فكل خلاف ينشأ داخل الأسرة يفصل فيه الأب بسلطان لا ينازعه فيه أي منازع، ولكن إذا قامت منازعات بين الأسر نفسها فليس لإنسان ما السلطان الكافي للفصل فيها؛ ومن ثم كان لا مناص من إشعال نار الحروب الداخلية بين الأسرات.
وقد أنشئ مجلس آباء الأسرات أو مجلس شيوخهم ليتوسط في حل المنازعات، ولكن لما كان هذا المجلس ليس له أية سلطة مباشرة على الأسرات، فإنه كان يلتجئ إلى العاطفة الدينية لمساعدتهم، وهذه العاطفة ترجع في أصولها إلى قرابة الدم التي كانت موجودة بين أعضاء العشيرة كلها، والأفراد الذين على الفطرة لهم آراء دينية يعتنقونها، فهم يعبدون قوى الطبيعة العظيمة ويهابونها، وهم يخافون الموت، ويخشون بأس الأموات وبخاصة أمواتهم؛ وذلك لأنه من بين هؤلاء الأموات جد العشيرة؛ أي أول والد للأسرة، وهو الفرد الذي يتعبد إليه كل نسله، فهو الذي تتجه إليه كل تضرعات العشيرة، ويرجع إلى سلطانه لسيادة السلام بين الأسرات، كما أن سلطة الأب تجعل الوئام يسود بين أولاده وأحفاده. ومن ذلك نرى أن الأمن يصبح ممثلا في الجد المشترك للأسرات، فهو الضامن للسلام؛ لأن الكل يخافه ويحترمه، فباسمه يمكن لمجلس شيوخ الأسرات أن يتدخل بصورة ظاهرة عند قيام أي عداء، ويرشدهم للسلام بدلا من استمرار الحروب الداخلية أو الشرع في إشعال نارها، فيتقاضون فيما بينهم، ويعقدون معاهدات صلح، يشترط فيها أن يدفع المعتدي دية للمعتدى عليه. وهكذا في صورة هذه الوثيقة ظهرت فكرة العقد الذي به يدفع أحد المعتدين ثمن نزوله عن الانتقام الذي يتخلى الطرف الثاني عن القيام بتنفيذه ضد عدوه. وهذا العقد الخاص يكون مصحوبا باستنجاد الجد حتى تحل لعنته على من يخل بالتعاقد؛ فالعقد إذن قد ضمن احترامه «لليمين»؛ ومن هذا يتضح لنا أن عبادة الجد ليست هي المنبع الأصلي للتشريع، بل هي تصديق للقانون، وكما أنه لا يوجد قانون من غير تصديق عليه، فإنه كذلك لا يوجد قانون إلا لأفراد متدينين بدين واحد، الذي يرتكز على وحدة الدم، ثم تنزل عنها رويدا رويدا لاعتناق وحدة التعبد لدين واحد تصبح وحدة قانونية. وكما أن جماعات من الأسر تؤلف عشيرة، فإن مجموع عشائر يكون كذلك قبيلة. على أننا لا نتكلم هنا عن جماعات غير معينة قد خلقتها الصدف، بل الواقع أن القبيلة هي طائفة جماعات؛ أي جماعات دينية وقانونية يجمعها نظام خاص، غير أنه في داخلها تحتفظ كل عشيرة باستقلالها، ومن الجائز أن هذه العشائر يكون بينها صلات دم تربطها، وقد تكون تلك الصلات معدومة، وقد يجوز أن سبب اختلاط تلك واحد مشترك، أو راجع إلى رابطة قرب الجوار، أو يرجع إلى ضرورة حتمها حب الدفاع عن النفس، والضرورة تقضي أن تأخذ القبيلة لونا، وتتميز بعبادة واحدة. وقد رأينا أنه لا يوجد قانون إلا بين عباد إله واحد. والواقع أن القبيلة في الأصل هي جماعة من الناس يربط أفرادها بعضها البعض رابطة وثيقة، هي الدفاع عن النفس، ولها قوانين والتزامات، وعلى ذلك لابد لأفرادها أن يعتنقوا ديانة واحدة فضلا عن عبادة جدهم الأكبر، وهذه الديانة إما أن تكون ديانة عشيرة أقوى من العشائر الأخرى التي ضمن القبيلة، وإما أن تكون ديانة جديدة، قد أخذت عن قبيلة أجنبية، أو عبادة قوى من قوى الطبيعة.
وبهذه الطريقة تتسع فكرة التماسك الديني، ويوضع فوق الجد المقدس عند العشيرة إله آخر أعظم منه قوة يسيطر على كل القبيلة؛ وذلك لأن كل نفوذه يكون أعظم انتشارا، وليس لهذا الإله الجديد صبغة عبادة الجد؛ ومن ثم تنفصل الديانة الحقيقية عن عبادة الجد القديم، فهي ليست متصلة بروابط الدم، كما أن سلطانها الذي هو في الواقع أعلى وأسمى معنى من ديانة الجد يرتكز على قوة الإله.
وعلى ذلك نجد أن القانون الذي يرتكز على العبادة قد خطا خطوة عظيمة، وامتد سلطانه على كل الذين يتعبدون إلى نفس الإله سواء أكان المتعبدون أقارب فيما بينهم أم غير أقارب. ونظام القبائل قد تأسس في عهد الفطرة، ولا شك أن المصريين الذين استوطنوا وادي النيل وقتئذ كانوا مقسمين إلى قبائل.
واستيطان القبيلة في مكان معين يضع أمامنا سلسلة مسائل جديدة: (1)
يجب على القبيلة أن تجعل عشائرها يعيشون على أرض إقليم محدد. (2)
نامعلوم صفحہ