ولعمري، فإن هذا النهر الذي مثل بنبات أخضر انبثق في وسط صحاري أفريقيا المجدبة التي تكتنف الوادي على جانبيه، ثم صار ذا ظل وارف وثمر قطوفه دانية في وسطها، قد ميز وادي النيل بصفات منقطعة القرين في كل العالم من الوجهتين الطبيعية والسياسية، ففي حين نرى أن هذا الوادي الخصيب يمثل كنانة الله في أرضه (ولفظ الكنانة مصري قديم)، وجنة أهلها على الأرض ونعيمهم المقيم من حيث الموقع والمناخ، فإن تلك التربة الخصبة قد أصبحت جميعها بعد الفتح الفارسي للبلاد عام 525ق.م.، وبعد قيام الدول العظيمة حولها، جحيما لسكانها ومصدرا لشقوتهم واستعبادهم على أيدي الغزاة الغاصبين، الذين تعاقبوا على احتلالها واستغلالها منذ ذلك الفتح إلى يومنا هذا؛ إذ الواقع أن مصر كانت - ولا تزال - لقمة سائغة وبقرة حلوبا، تتطلع إليها كل دولة قوية تحاول السيطرة على العالم، فإذا رجعنا إلى الوراء قبل الفتح الفارسي منذ انبثاق فجر التاريخ، وجدنا أن مركز مصر الجغرافي قد هيأ لها السيطرة على العالم القديم أجمع، حتى وصلت القمة في عهد تحتمس الثالث الذي يلقبه مؤرخو الغرب نابليون الشرق، وأول عاهل في العالم خضعت له جميع الأمم المتمدينة المعروفة وقتئذ في أفريقيا وآسيا؛ إذ كانت أوربا في تلك الفترة لا يزال أهلها في عهد السذاجة والفطرة يهيمون على وجوههم في الأدغال والوديان، لا فرق بينهم وبين الأنعام، فكان سلطان «تحتمس الثالث» يمتد وقتئذ (حوالي 1500ق.م.) من أعالي نهر دجلة والفرات شمالا، وجزر البحر الأبيض المتوسط إلى الشلال الرابع جنوبا.
وهكذا دواليك نرى أن الموقع الجغرافي يغير مجرى حياة البيئة حسب تطور الأحوال الاقتصادية والسياسية ونمو المدينة وما يتبع ذلك من انقلابات؛ فالموقع الجغرافي الذي كان في غابر الزمان يعد حسنة للقوم الذين يسكنونه، قد يصبح فيما بعد شرا مستطيرا ونقمة عليهم. وهكذا تقوم الدول ثم تنحط ثم تفيق كرة أخرى من رقدتها وسباتها، وليس ببعيد إذن أن تنقلب الأحوال ثانية؛ فيعود لمصر نعيمها ومجدها، ويخضر عودها، وتحيا حضارتها التي تعد في نظر علماء التاريخ المصري أنها أقدم حضارة عرفها التاريخ، ومن ينابيعها استقى كل العالم القديم مبادئ الحضارة التي أسست على قواعدها المدنية الحديثة في كل العالم العربي المسيحي.
أسماء مصر
قبل أن أتكلم عن أقسام مصر الجغرافية أريد أن أستعرض أمامكم بعض الأسماء القديمة التي تسمت بها مصر على التوالي منذ فجر تاريخها إلى نهاية العهد الإغريقي. والواقع أن المصريين تفننوا في تسمية بلادهم بأسماء عدة إلى درجة فاقت حد المألوف، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن هذه الأسماء قد اندثرت جميعها تقريبا، ولم يبق من بينها إلا بعض مسميات مغمورة نذكرها، ولا نفقه أن أصلها يرجع إلى مسميات البلاد الأصلية بلغتها القديمة. ويزيد في أسفنا أن اسم «مصر» ليس في أصله مصريا بل هو آشوري، ولم أعثر عليه مكتوبا باللغة المصرية إلا مرة واحدة في العهد المتأخر.
وسأذكر لحضراتكم هنا بعض هذه الأسماء التي كانت تطلق على البلاد المصرية محاولين قرنها بالأسماء التي بقيت لدينا محفوظة في ثنايا آثار تلك المسميات:
كمي أونا-كمي:
وهذه التسمية ظهرت في اللغة المصرية القديمة منذ نهاية الدولة القديمة، ومعناها الأرض المثمرة، وذلك مقابل الأرض المجدبة التي كانت تسمى «دشرت» أي الأرض الحمراء أي الصحراء، ومن كلمة «كمي» أخذت كلمة كيمياء كما هو معروف، وكذلك كانت تسمى البلاد إقليم الأرض السوداء «با-نا-ن-كمي»، وكان المصريون يسمون «رمت-ن كمي» أهل الأرض السوداء.
تامرا:
أرض الفأس أو الفلاحة، وقد ترجمها البعض بأنها أرض الفيضان. والواقع أنها الأرض التي تفلح بالفأس، وتفسير ذلك أن كلمة «تا» معناها الأرض وكلمة «مرا» معناها الفأس، والمخصص الذي بعدها هو النبات الذي نتج من فلاحة الأرض بالفأس. وقد بقي هذا الاسم محفوظا لدينا حتى الآن في كلمة «دميرة»، وهو وقت إصلاح الأرض للفيضان في شهر مسرى بالفأس.
ومن لفظة فأس هذه اشتق المصري كلمة «مرو» أي المشتغلين بالفأس وهم الفلاحون؛ ولذلك صدق القول: «كل فلاح مصري وليس كل مصري فلاحا.»
نامعلوم صفحہ