كانت السكرتيرة واقفة بالخارج في الردهة تتساءل ماذا تفعل. كانت شبه متأكدة أن تيد بالغرفة وأن فرانسيس معه. ومثل كل شخص آخر في المدينة، كانت تعرف قصتهما منذ فترة. (من بين القلائل الذين كان من الواضح جهلهم بالأمر زوجة تيد، جريتا، ووالدة فرانسيس. لم تكن جريتا امرأة اجتماعية؛ فكان من الصعب على أحد إيجاد طريقة لإخبارها. وحاول الناس بطرق مختلفة إخبار السيدة رايت العجوز، والدة فرانسيس، ولكنها لم تستوعب فيما يبدو.) «مستر ماكافالا!»
أمام أعين فرانسيس مباشرة كان تيد يزداد شحوبا وضعفا، ويبدو رقيقا ومثيرا للشفقة. «مستر ماكافالا! آسفة لإخبارك بالأمر. لقد قتل ابنك!» •••
لم يقتل ابن تيد، بوبي، الذي كان في الثانية عشرة من عمره، ولكن السكرتيرة لم تكن تعرف ذلك. لقد أخبروها بوقوع حادث، حادث مريع أمام مكتب البريد، حيث قتل ابنا أوهير وماكافالا. كانت إصابة بوبي بالغة ونقل إلى لندن بسيارة الإسعاف فورا. لقد استغرق وصولهم إلى هناك أربع ساعات بسبب العاصفة الثلجية، وقد تبعهم تيد وجريتا بالسيارة.
جلس الوالدان في غرفة الانتظار بمستشفى فيكتوريا. ولاحظ تيد نقشا للملكة العجوز - تلك الأرملة الغاضبة - على نافذة ذات زجاج ملون، بدت في الرسم كقديسة، ويا لها من قديسة مثيرة للسخط. كما تخيل أن هذا النقش ينافس صورة القديس جوزيف المرسومة بالجص على جدار المستشفى التابع لمدينتهم، وهو يمد ذراعيه وكأنه سيسقط عليك؛ فكلاهما سيئ. ما جال بخاطره حينئذ أن يخبر فرانسيس بذلك؛ فعندما كان يبهجه أو يغضبه شيء - وكثيرة هي الأشياء التي كانت تجعله يشعر بالإحساسين في نفس الوقت - كان يفكر في إخبار فرانسيس. وبدا أن هذا يرضيه، مثلما قد يشعر أحدهم بالرضى لمراسلة محرر.
فكر في الاتصال بها، لا ليخبرها بشأن الملكة فيكتوريا، ليس الآن، ولكن ليخبرها بما حدث ، وأنه في لندن. لم يكن قد أخبرها أيضا أنه لن يستطيع مقابلتها مساء الأربعاء. كان ينوي إخبارها بذلك لاحقا. ولكن الأمر ليس مهما الآن؛ فكل شيء تغير. لم يستطع تيد الاتصال بها من الغرفة التي يجلس فيها هو وزوجته؛ فالهواتف كانت مرئية بوضوح في غرفة الانتظار.
قالت جريتا إنها لاحظت كافيتيريا أو لافتة ذات أسهم تشير إلى اتجاه الكافيتيريا في المستشفى؛ كانت الساعة حينها قد تخطت التاسعة، ولم يتناولا عشاءهما بعد. «يجب أن تتناول بعض الطعام.» قالتها جريتا دون أن تخاطب تيد بالتحديد، ولكنها كانت تتحدث وفقا لما جرى العرف عليه. من المحتمل أنها في هذه اللحظة كانت تفضل التحدث باللغة الفنلندية، ولكنها لم تكن تتحدث الفنلندية مع تيد؛ فهو لا يعرف كلمات كثيرة؛ إذ إنه نشأ في بيت كان يصر على استخدام الإنجليزية، على النقيض من منزل جريتا. لم يكن هناك أحد في هانراتي تستطيع جريتا التحدث بالفنلندية معه، وهذه كانت إحدى مشكلاتها. كانت فاتورة الهاتف هي المصدر الأساسي الذي يلتهم معظم مالهما؛ لأن تيد لم يكن بمقدوره الاعتراض على محادثاتها الطويلة والحزينة، وإن كانت مبتهجة فيما يبدو، مع والدتها وشقيقاتها.
طلبا شطائر جبن ولحم وقهوة، واشترت جريتا قطعة من فطيرة الزبيب، ترددت يدها فوقها للحظة قبل أن تلتقطها، ربما كانت في حيرة من أمرها حيال نوع الفطيرة الذي تريده، أو ربما كانت متحرجة من تناول فطيرة في هذا الوقت العصيب، وأمام زوجها. وفي أثناء جلوسهما خطر لتيد أن الوقت مناسب ليستأذن بالانصراف، ويعود إلى القاعة حيث توجد الهواتف ويتصل بفرانسيس.
راقب وجه جريتا ناصع البياض، وعينيها الفاتحتين، وهي تنكب على الطعام بنهم، وربما بأمل. كانت تأكل لتخفف من حدة فزعها، بالضبط مثلما فكر هو في الملكة فيكتوريا والقديس جوزيف ليخفف من حدة فزعه. كان على وشك الاستئذان والنهوض في اللحظة التي واتته فيها فجأة فكرة أنه إذا ذهب للاتصال بفرانسيس، فقد يموت ولده. وإذا لم يتصل بها، أو حتى يفكر فيها، واعتزم طردها من حياته، فسيضاعف من فرص نجاة بوبي ويحول دون موته. ما هذا الكم من الهراء؟ يا لها من خزعبلات تلك التي راودته على حين غرة، لكن كان من المستحيل أن يوقفها، من المستحيل أن يتغاضى عنها. ماذا لو كان الأسوأ قادما؟ ماذا لو تجسدت الفكرة التي ستراوده بعد ذلك في إحدى تلك المقايضات السخيفة؟ وراودته الفكرة: الإيمان بالرب وفقا للعقيدة اللوثرية، وقطع العهد على نفسه بالذهاب إلى الكنيسة بعد هذه الفترة من الانقطاع، والتنفيذ فورا، الآن، ولن يموت بوبي؛ والتخلي عن فرانسيس، التخلي عنها للأبد، ولن يموت بوبي.
التخلي عن فرانسيس!
كم كان هذا سخيفا ومجحفا، وكم كان من السهل وضع فرانسيس في جانب، وكأنها دنسة، وعلى الجانب الآخر ابنه المصاب، ابنه المسكين المحطم، الذي كانت نظرته - في المرة الوحيدة التي فتح فيها عينيه - تطالب بشيء ما من سبيل لتلبيته، تطالب بحياته ذات الاثنتي عشرة سنة. البراءة والفساد؛ بوبي وفرانسيس. يا له من اختزال! يا له من هراء! هراء تام!
نامعلوم صفحہ