أكمل أبي بأنهن لم يراعين الأعراف، هكذا كن، في ذروة شبابهن.
ذهبت أمي لتلقي نظرة على خزانة المطبخ المصنوعة من خشب البلوط، والتي كانت ثقيلة للغاية وعالية. لم تكن مقابض جميع الأبواب والأدراج مستديرة تماما، بل كانت غير منتظمة الشكل إلى حد ما، إما بسبب سوء التصنيع أو بسبب كثرة استخدامها.
قالت أمي: «يمكنكن إحضار تاجر تحف إلى هنا وسيعرض عليكن مائة دولار مقابل شراء هذه الخزانة. ولو حدث هذا، لا تقبلن. وكذلك المناضد والكراسي. لا تسمحن لأي أحد أن يقنعكن ببيعها قبل أن تعرفن قيمتها الحقيقية. أعلم ما أقوله لكن.» ودون أن تطلب الإذن تفحصت الخزانة، وتحسست المقابض، وألقت نظرة على الظهر. ثم قالت وهي تقرع خشب الصنوبر بترو: «لا أستطيع أنا أن أخبركن بقيمتها، ولكن لو قررتن بيعها فسأجلب أفضل شخص يمكنني إيجاده ليقوم بتثمينها. وهذا ليس كل شيء؛ لديكن أثاث يساوي ثروة في هذا البيت، ولكنكن تحتفظن به. فلديكن الأثاث القديم الذي تم تصنيعه هنا، ولم يعد هناك مثيل له. فالناس تخلصت منه، في بداية القرن، واشتروا أثاثا من الطراز الفيكتوري بعد أن ازدهرت أحوالهم. الأثاث الذي لم يتم التخلص منه يساوي ثروة، وستظل قيمته في صعود. صدقنني.»
كانت صادقة، ولكنهن لم يصدقنها. ما عدن يستطعن فهمها أفضل مما لو كانت تهذي. ربما لم تكن كلمة تحف معروفة بالنسبة إليهن. كانت تتحدث عن خزانة مطبخهن، ولكن من منظور لم يفهمنه: لو جاء تاجر إلى بيتهن وعرض عليهن مالا؟ ما من أحد يأتي إلى بيتهن. وربما كان بيع الخزانة أمرا يصعب عليهن تخيله مثلما هو صعب عليهن تخيل بيع حائط المطبخ؛ فقد كن ينظرن تحت أقدامهن فحسب.
قال أبي ليلطف الأجواء: «إذن أعتقد أن ذلك كان من حسن حظ أولئك الذين لم تزدهر أحوالهم.» ولكنهن لم يجبن عليه هو أيضا. كن يعرفن معنى كلمة مزدهر، ولكنهن لم يستخدمنها قط، ولم يحركن ألسنتهن بها من قبل، ولم تفكر عقولهن بفكرة ازدهارهن. كن يلاحظن أن بعض الناس - حتى جيرانهن - ينفقون المال في شراء الجرارات وماكينات الحصد وماكينات الحلب، وكذلك السيارات والمنازل، وأعتقد أن هذا بدا لهن شيئا مفزعا غير مرغوب فيه على الإطلاق؛ نوع من تضييع الأملاك وعدم القدرة على السيطرة على الذات. كن يشفقن على الناس الذين يفعلون هذا، بشكل من الأشكال، بنفس الطريقة التي قد يشفقن بها على الفتيات اللاتي كن يهرولن فعلا إلى الحفلات الراقصة، ويدخن ويغازلن ويتزوجن. ربما يشفقن على أمي أيضا. كانت أمي تنظر إلى حياتهن وتفكر في أنهن يجب أن يبتهجن ويتفتحن. لنفترض أنهن بعن بعض الأثاث ووصلن المياه الجارية إلى البيت، واشترين غسالة، ووضعن مشمعا على الأرضية، وابتعن سيارة وتعلمن قيادتها. ولم لا؟ كانت أمي تسألهن وهي تنظر إلى الحياة في ضوء التغيير والاحتمالات. تخيلت أمي أنهن قد يتقن لبعض الأشياء، ليس فقط أشياء مادية، ولكن لظروف وقدرات، لم يزعجن حتى أنفسهن بالندم على افتقارهن لها، ولم يفكرن في رفضها، بما أنهن مقيدات بما يملكنه وبما كن عليه، ولا يمكنهن تخيل أنفسهن في وضع مختلف. •••
عندما أودع أبي في المستشفى في آخر مرة، أصبح خفيف الظل كثيرا ومهذارا تحت تأثير الحبوب التي كانوا يقدمونها له، وقد تحدث إلي بشأن حياته وعائلته. أخبرني كيف ترك بيته. في الواقع لقد تركه مرتين؛ المرة الأولى وقعت خلال الصيف الذي بلغ فيه الرابعة عشرة من العمر. كان أبوه قد أرسله لشق بعض جذوع الأشجار. فكسر يد الفأس، وشتمه أبوه، وجرى وراءه بمذراة. وكان معروفا عن أبيه مزاجه الحاد واجتهاده في العمل. صرخت الشقيقات، بينما ركض أبي - وهو صبي في الرابعة عشرة من العمر - عبر الزقاق بأقصى سرعة لديه. «هل كن يستطعن الصراخ؟» «ماذا ؟ أجل، آنذاك. نعم كن يستطعن ذلك.»
كانت نية أبي هي أن يجري فقط بعيدا بطول الطريق، ويتسكع قليلا، ثم يعود عندما تخبره شقيقاته بأن الطريق آمن. ولكنه لم يتوقف عن الركض حتى قطع نصف المسافة إلى جودريتش، ثم فكر أن يقطع المسافة المتبقية. عمل على قارب في البحيرة، وقضى بقية الموسم يعمل عليه، ثم خلال الشهر الذي سبق الكريسماس، بعد انقضاء موسم الملاحة، عمل في طاحونة دقيق. كان يستطيع العمل هناك، ولكنه كان قاصرا، وخشي أصحاب الطاحونة من المفتش؛ ولذلك سرحوه. كان يريد العودة إلى موطنه على أية حال لقضاء الكريسماس. كان مشتاقا إلى وطنه. فاشترى هدايا لأبيه وشقيقاته. كانت هدية أبيه ساعة. غير أن هذه الساعة وثمن التذكرة بددا كل مليم كان معه.
وبعد الكريسماس ببضعة أيام كان في الحظيرة يضع القش، وجاء أبوه باحثا عنه. «هل معك أي أموال؟»
فرد أبي بالنفي. «حسنا، هل تعتقد إذن أنني وشقيقاتك قضينا الصيف والخريف بطولهما نتأمل مؤخرات الأبقار، لتعود أنت إلى البيت ونعولك في الشتاء؟»
كانت هذه هي المرة الثانية التي يفارق فيها أبي البيت.
نامعلوم صفحہ