لم يكن الأمر مجديا؛ فلن أستطيع مطلقا التمييز بينهن. لقد بدون جميعا متشابهات. لا بد وأن الفارق في العمر بينهن كان اثني عشر أو خمسة عشر عاما، ولكن بالنسبة إلي بدون جميعا في الخمسين من العمر تقريبا، أكبر من والدي، ولكنهن لسن طاعنات فعلا في السن. كن جميعا نحيلات وممشوقات القوام، وربما كن في وقت من الأوقات طويلات القامة إلى حد ما، ولكنهن الآن محدبات الظهر، بسبب العمل الشاق والإذعان. كان شعر بعضهن مقصوصا فبدت التسريحة طفولية بسيطة، وبعضهن ضفرنه ولففنه فوق رءوسهن. لم يكن شعر إحداهن أسود بالكامل أو رماديا بالكامل. كانت وجوههن شاحبة، وحواجبهن سميكة وكثيفة الشعر، وعيونهن غائرة ولامعة، رمادية زرقاء أو رمادية خضراء أو رمادية فحسب. وكن يشبهن أبي كثيرا وإن كان ظهره غير محدب مثلهن، كما كان وجهه متهللا، بعكسهن، فبدا رجلا وسيما.
كن يشبهنني كثيرا. لم أدرك ذلك وقتها ولم أكن لأرغب في ذلك. ولكن ماذا لو افترضت أنني توقفت عن الاهتمام بشعري، الآن، وأنني توقفت عن وضع مساحيق الزينة وتشذيب حاجبي، وارتديت فستانا دميما مطبوعا عليه إحدى الصور ومئزرا، ووقفت مطأطئة الرأس أحتضن مرفقي؟ أجل. وبالتالي عندما ألقت أمي وقريباتها نظرة علي، ووجهنني بقلق نحو الضوء، يسألن: «هل تنتمي إلى آل تشادلي؟ ما رأيكن؟» لقد كن يتطلعن إلى وجه ينتمي إلى آل فليمينج، ولأكون صادقة، كان وجها أجمل من وجوههن. (ليس الأمر أنهن كن يدعين الجمال، ولكن كان مجرد انتمائهن إلى آل تشادلي كافيا.)
كانت يدا إحدى عماتي حمراوين كلون أرنب مسلوخ. ولاحقا في المطبخ جلست تلك العمة على كرسي يستند إلى صندوق الحطب، شبه متوارية خلف الموقد، ورأيت كيف ظلت تفرك هاتين اليدين وتلويهما في مئزرتها. أذكر أنني رأيت هاتين اليدين قبلا، في واحدة من الزيارات القديمة، منذ أمد بعيد، وقد أخبرتني أمي أن السبب هو أن هذه العمة - هل كانت دائما نفس العمة؟ - كانت تنظف الأرضيات والمناضد والكراسي بغسول القلى لتبقى بيضاء. وهذا ما فعله الغسول بيديها. وبعد هذه الزيارة أيضا، في طريقنا إلى البيت قالت أمي بنبرة اتهام عام، مليئة بالأسى والاشمئزاز: «هل رأيتم هاتين اليدين؟ لا بد وأن العمة حصلت على استثناء كنسي حتى تنظف في أيام الآحاد.»
كانت الأرضية من خشب الصنوبر، وكانت بيضاء، ولامعة، ولكنها كانت في نفس الوقت ناعمة مثل المخمل. وكذلك الكراسي والمناضد. جلسنا جميعا في أرجاء المطبخ، الذي كان أشبه ببيت صغير متصل بالبيت الرئيسي، حيث البابان الأمامي والخلفي مواجهان أحدهما للآخر، والنوافذ موجودة في ثلاثة اتجاهات. كان الموقد الأسود البارد يلمع أيضا بدهان التلميع، وكانت حوافه مثل المرايا. كان مطبخهن أكثر نظافة وخلوا من الأثاث مقارنة بأي مطبخ رأيته من قبل. لم يكن هناك أثر للعبث، ما من إشارة على أن النساء اللاتي يعشن هنا سعين قط إلى الترفيه. فلا يوجد راديو، ولا صحف ولا مجلات، وبالتأكيد ولا كتب أيضا. لا بد وأنه كان هناك إنجيل في البيت، وبالتأكيد هناك نتيجة للتقويم، ولكننا لم نرهما. كان من الصعب الآن حتى أن نصدق بوجود عرائس تم تشكيلها من مشابك الغسيل وأقلام الألوان والغزل. أردت أن أسأل أيهن صنعت لي العرائس، وهل كان هناك فعلا سيدة بشعر مستعار وجندي بساق واحدة؟ ولكن رغم أن الخجل لم يكن في العادة إحدى صفاتي، فقد انتابني شلل غريب في هذه الغرفة، كما لو أنني قد أدركت للمرة الأولى أن أي سؤال سأطرحه قد يكون وقحا، وأن أي رأي سأعرضه قد يكون خطيرا .
العمل هو ما كان يملأ حياتهن، وليس الحوار. العمل هو ما كان يضفي على يومهن معنى. أعلم هذا الآن؛ فحلب الأبقار من ضروعها الخشنة، وجر المكواة للأمام والخلف على لوح الكي الذي تصدر منه رائحة الشياط، وإلقاء ماء المسح المحتوي على مواد التبييض على الأرضية المصنوعة من خشب الصنوبر؛ كل هذا كفيل بتحويلهن إلى بكم، وربما كن راضيات بهذا. لا يتم العمل هنا كما كان يتم في بيتنا، حيث كانت الفكرة السائدة هي سرعة إنجاز العمل. بل العمل هنا يمكن - بل لا بد - أن يستمر إلى الأبد.
ما الذي يمكن أن يقال في هذا السياق؟ عماتي - كمن ينخرطون في دردشة مع أسرة ملكية - لا يبادرن بأي تعليقات من تلقاء أنفسهن على الإطلاق، ولكنهن يكتفين بالإجابة عن الأسئلة. كما لم يعرضن تقديم واجب الضيافة. وكان من الواضح أنهن يبذلن مجهودا كبيرا ليمنعن أنفسهن من الفرار والاختباء، مثل عمتي سوزان، التي لم تعاود الظهور طيلة الوقت الذي قضيناه هناك. ما يمكن الإحساس به في تلك الغرفة هو ألم التواصل الإنساني. كنت مبهورة به. الألم المذهل، والاحتياج المهين.
كان أبي يعلم كيف يبدأ الحديث، فبدأ بالطقس: عن الحاجة إلى المطر، والأمطار التي هطلت في يوليو وأفسدت التبن، والربيع الرطب في العام الماضي، والفيضانات التي كانت تحدث في الماضي السحيق، واحتمالات أو عدم احتمال أن يكون الخريف ممطرا. أعاد إليهم هذا الحديث الهدوء. ثم سأل عن الأبقار، وحصان العربة الذي كان اسمه نيلي، وحصاني العمل: برينس وكوين، والحديقة، هل أصابت الآفات الطماطم؟ «كلا، لم تصبها.» «كم كوارتا جمعتن؟» «سبعة وعشرين.» «هل صنعتن أي صلصة حارة؟ هل أعددتن بعض العصير؟» «أجل، عصير وصلصة حارة.» «إذن لن تتضورن جوعا خلال الشتاء القادم. ستزددن سمنة المرة القادمة.»
صدرت قهقهات من اثنتين منهما وتشجع أبي وواصل إغاظتهن. سألهن ما إذا كن يرقصن كثيرا هذه الأيام. وهز رأسه وهو يتظاهر بأنه يتذكر ما كان معروفا عنهن بملاحقتهن للحفلات الراقصة في أرجاء البلد، والتدخين والمرح. قال: إنهن كن يسئن التصرف ، وإنهن رفضن الزواج لأنهن كن يفضلن المغازلة، وإنه لم يكن يستطيع أن يرفع رأسه لأنهن كن مصدر خزي له.
تدخلت أمي عندئذ. لا بد وأنها كانت تريد إنقاذهن، متصورة أنه من القسوة إغاظتهن بهذه الطريقة، والإسهاب في الحديث عما لم يمتلكنه أو يفعلنه يوما.
قالت: «هذه قطعة أثاث بديعة؛ أقصد هذا البوفيه، لطالما أعجبني!»
نامعلوم صفحہ