زعموا في تعليل ذلك - وأصابوا - أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض؛ لأنهم يستطيعون أن يقضوا أوقات الفراغ منفردين منعزلين، وأن الفرنسي لا يطيق العزلة ولا يحتمل أن يفرغ لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه ... •••
ويصدق علينا في الشرق ما يصدق على الفرنسيين، فإن الإنسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات.
ولا يهتدي بعد البحث الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.
إن كان قصارى ما أصاب الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار «كندا» ... فالأمر معنا أخطر وأعظم، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه!
قيل عن «أسبرطة» إنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في العراء، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقا بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم التربية، ومن ظهر عليه التخدر والسبات أهملوه ونبذوه ...
ولو أنني أردت امتحان الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترة في آنية النبيذ، بل تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم، فمن صبر على هذه الساعات فهو رجل ملآن بقوة الفكر، وقوة الخلق، وقوة الاحتمال، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير فيه. •••
ماذا نتعلم من ساعات الفراغ؟
نتعلم منها كل شيء، ولا نتعلم شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت فراغ ...
فالمعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصول نفيس، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير ...
ولن تتيسر لنا هذه الغربلة، وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ ...
نامعلوم صفحہ