60

ومن جهة أخرى فإن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام، وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكريا في كل موضوع. وعندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختيار الطعام، وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض، فاقرأ ما شئت تستفد إذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يلقى فيها من الموضوعات، وإلا فاجعل القابلية حكما لك فيما تختار؛ لأن الجسم في الغالب يغذيه ما نشتهيه.

ولا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب؛ لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما أن التجارب لا تغني عن الكتب؛ فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين. •••

ولا أظن أن هناك كتبا مكررة لأخرى؛ لأني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كاتب أصبحت ألف فكرة، ولم تعد فكرة واحدة؛ ولهذا أتعمد أن أقرأ في الموضوع الواحد أقوال كتاب عديدين، وأشعر أن هذا أمتع وأنفع من قراءة الموضوعات المتعددة. فمثلا: أقرأ في حياة نابليون أكثر من أقوال ثلاثين كاتبا، وأنا واثق من أن كل نابليون من هؤلاء هو غير نابليون الذي وصف في كتب الآخرين.

أما تأثير كل من أنواع الكتب الثلاثة: العلمية، والأدبية، والفلسفية فهو أن الكتب العلمية تعلمنا الضبط والدقة، وتفيدنا المعارف المحدودة التي يشترك فيها جميع الناس، والكتب الأدبية توسع دائرة العطف والشعور، وتكشف لنا عن الحياة والجمال، والكتب الفلسفية تنبه البصيرة وملكة الاستقصاء، وتتعدى بالقارئ من المعلوم إلى المجهول، وتنتقل به من الفروع إلى الأصول.

وكل من هذه الأنواع لازم لتثقيف الإنسان، وتعريفه جوانب هذا العالم الذي يعيش فيه. وأنا أفضلها على هذا الترتيب: الأدبية، فالفلسفية، فالعلمية.

ولا يستطيع القارئ أن يحصر مقدار الفائدة التي يجنيها من كتاب، فرب كتاب يجتهد في قراءته كل الاجتهاد، ثم لا يخرج منها بطائل، ورب كتاب يتصفحه تصفحا، ثم يترك في نفسه أثرا عميقا يظهر في كل رأي من آرائه، وكل اتجاه من اتجاهات ذهنه، فأنت لا تعرف حق المعرفة «الطريقة» التي تضمن الفائدة التامة من قراءة الكتب، ولكن لعل أفضل ما يشار به - على الإجمال - هو ألا تكره نفسك على القراءة، وأن تدع الكتاب في اللحظة التي تشعر فيها بالفتور والاستثقال. •••

أما مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل، وتذوق الحياة، فإذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديرا بالعناية والتقدير، فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها، وعلى هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب، وما لا يصلح. (4) منهجي في كتابة المقالات

أكتب أكثر المقالات الصحفية للمجلات الأدبية باقتراح من الزملاء المشرفين على تحريرها، وأرحب بهذه الطريقة كل الترحيب؛ لأنني عرفت بالتجربة الطويلة أن محرر المجلة أولى باقتراح موضوعاتها، وأقدر على اختيارها، واجتناب التكرار فيها؛ إذ هو أعرف بمنهج صحيفته وأذواق قرائه، وبرنامج الأعداد التي تصدر منها مبوبة، أو مرتبة على حسب مواعيدها ... فهو يعفي الكاتب من مؤنة البحث عن موضوع يوافق هذه المطالب ويجهله - أكثر الأحيان - أو لا يعلم بتفصيلاته علم صاحب الدار.

فاقتراح موضوع المقال من قبل المجلة ييسر لمحررها أن يلاحظ مطالبها، ويعفي الكاتب من البحث عنها، وليس فيها مشقة على الكاتب في استجابة الاقتراح كائنا ما كان؛ لأنني - من وجهة نظري - لا أرى عنوانا من العناوين غير صالح للكتابة فيه، ولو على سبيل الاستطراد، وإبداء وجهة النظر في قلة صلاحه أو قلة جدوى الكتابة فيه، إن رأى الكاتب أنها لا تجدي في حالة من الحالات، أو في جميع الحالات. •••

أما المقالات الصحفية التي كتبتها في صحف يومية توليت تحريرها فقد كانت الصعوبة الكبرى في تقديم موضوع منها على موضوع، أو في تأجيل بعضها إلى ما بعد يومه ومناسبته؛ لأننا تولينا العمل الصحفي في إبان الحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، فلم يخل يوم من أيام كتابتنا الصحفية من خبر خارجي أو داخلي، يستدعي المبادرة بالتعقيب عليه، ولم تزل أعمال الإصلاح التي يشتغل بها ولاة الأمور، ويدعو إليها المصلحون الوطنيون سيلا متدفقا بالآراء والنصائح والمشروعات والبرامج على اختلاف المذاهب والنيات، بين أنصار الدعوة من جانب، ومعارضيها من جانب واحد، أو جوانب شتى، وكثيرا ما كانت الصحف اليومية تصدر في وقت واحد من النهار، وفيها ما يستلزم الرد عليه قبل فوات يومه، وقد يصدر بعض الصحف صباحا، ويتبعه الرد على ما فيه من طبعات المساء ... فقد كانت الصعوبة - كما تقدم - أن نؤجل موضوعا منها، أو نجمع ما بينها في وقت واحد، وقد يكون الجمع بين الموضوعين أيسر الأمرين، فينشر أحدهما بتوقيع صريح وينشر الآخر بتوقيع مستعار أو مختصر معروف. وربما لجأنا أحيانا إلى الاقتراع بين أسماء الموضوعات إذا تعذر نشر المقالين معا لسبب من الأسباب الفنية. •••

نامعلوم صفحہ