فأما الوراثة فإني قد نشأت بين أبوين شديدين في الدين لا يتركان فريضة من الفرائض اليومية، وفتحت عيني على الدنيا وأنا أرى أبي يستيقظ قبل الفجر ليؤدي الصلاة ويبتهل إلى الله بالدعاء، ولا يزال على مصلاه إلى ما بعد طلوع الشمس فلا يتناول طعام الإفطار حتى يفرغ من أداء الفرض والنافلة وتلاوة «الأوراد» ... •••
ورأيت والدتي في عنفوان شبابها تؤدي الصلوات الخمس، وتصوم وتطعم المساكين، وقلما ترى النساء مصليات أو صائمات قبل الأربعين. وندر بين أقاربي من لا يسمى باسم من أسماء النبي وآله سواء منهم الرجال والنساء أو من أسماء الأنبياء على العموم، وكان في بيت أخوالي درس لقراءة الكتب الدينية، وأذكر منها مختارات الأحاديث النبوية، وإحياء علوم الدين؛ فللوراثة شأن فيما عندي من سليقة الاعتقاد.
أما الإيمان بالشعور فذاك أن مزاج التدين ومزاج الأدب والفن يلتقيان في الحس والتصور والشعور بالغيب، وربما كان «وعي الحياة» شعبة من «وعي الكون»، أو من «الوعي الكوني» الذي يتعلق به كل شعور بعظمة العالم، وعظمة خالق العالم ... والوعي الحيوي مصدر النفس والوعي الكوني مصدر الدين.
أما الإيمان بالله بعد تفكير طويل، فخلاصته أن تفسير الخليقة بمشيئة الخالق العالم المريد أوضح من كل تفسير يقول به الماديون، وما من مذهب اطلعت عليه من مذاهب الماديين إلا وهو يوقع العقل في تناقض لا ينتهي إلى توفيق، أو يلجئه إلى زعم لا يقوم عليه دليل، وقد يهون معه تصديق أسخف الخرافات والأساطير فضلا عن تصديق العقائد الدينية، وتصديق الرسل والدعاة. فالقول بالتطور في عالم لا أول له خرافة تعرض عنها العقول؛ لأن ابتداء التطور يحتاج إلى شيء جديد في العالم وحدوث التطور بغير ابتداء تناقض لا يسوغ في اللسان فضلا عن الفكر أو الخيال، والقول بالاتقاء الدائم من طريق المصادفة زعم يهون معه التصديق بالخرافات، وخوارق العادات في تركيب الأجسام أو الأحياء.
والقول بأن المادة تخلق العقل كالقول بأن الحجر يخلق البيت، وأن البيت يخلق الساكن فيه، وأيسر من ذلك عقلا، بل ألزم من ذلك عقلا أن يقال إن العقل والمادة موجودان، وإن أحراهما بأن يسبق الآخر ويخلقه هو العقل؛ لأن المادة لا توجد ما هو أفضل منها، وفاقد الشيء لا يعطيه ... فأنا أومن بالله وراثة، وأومن بالله شعورا، وأومن بالله بعد تفكير طويل.
هذا في مجال العقيدة ... •••
أما في مجال الأخلاق، فلا موجب عندي لعمل الخير غير طلب الكمال، وفهم الكمال ...
ومن الخير ما هو عسير على النفس، محفوف بالخطر، مكروه العواقب، مستهدف للنقد والمذمة بين من يجهلونه أو يصابون في منافعهم من جرائه، فلا باعث لعمل هذا الخير أقوى من باعث الشوق إلى الكمال والارتفاع بالنفس إلى ما ترضاه ...
إن الإنسان لا يرائي بحب الطعام الجيد أو الطعام المفيد، إنه يحبه في السر كما يحبه في العلانية، وإنه ليبذل فيه ثمنه وإن غلا ويجلبه من مكانه وإن بعد، وإنه ليكتفي به ويحسبه جزاء حسنا، ولا ينتظر عليه المثوبة أو الشكران من أحد؛ لأنه يتناوله لنفسه ولا يتناوله مرضاة لغيره.
وهكذا طعام العقل أو طعام الروح حيثما عرفت الروح ما يصلح لها، وما يليق بها من طعام، إنها لا تستريح بغيره، ولا تتوانى عن طلبه، ولا تنتظر المثوبة أو الشكر؛ لأنها تختار غذاءها فتحسن اختياره، ولا ترضى بما دونه، وإنما المهم أن تعرف هذا الغذاء فإذا هي عرفته فلا باعث لها إلى الخير أقوى من الشوق إليه، ولا وازع لها، ولا عقوبة تخشاها في سبيله أوجع من فواته والحرمان منه ...
نامعلوم صفحہ