فقال مبادرا: هي إن شئت مغامرة ولكنها ليست مقامرة على كل حال. هناك ألوف من الشبان يجعلون من الامتحان نوعا من المقامرة؛ لأنهم مفلسون يريدون أن يحصلوا على ثروة بغير مقابل، ولكنك لا تقامر يا صديقي لأنك تطلب شيئا تعرف قيمته وتريد أن تحصل عليه بثمنه. لم تكن واقفا كما زعمت إلى جانب الطريق والقطار السريع يمر بك. لا أحب أن أجاملك بمثل هذه الأقوال ولست أقصد أن أجاملك ولكني أظن أنك أحسنت.
فملأني قوله ثقة وقمت مستأذنا وقلت: سأمر عليك في الصباح.
فقال: سأكون هناك منذ الساعة الثامنة، وإن كنت لا أبدأ عملي قبل العاشرة، وأحب أن أذكرك بأني معلم.
فتبسمت قائلا: وأحب أن أقول لك أيضا إني أصبحت تلميذا من جديد، وأرجو أن أكون تلميذا مجتهدا.
ومددت يدي إليه، وضغطت على يده بغير أن أشكره بلساني، وبدأت من ليلتي أعد العدة للمذاكرة، ولا أذكر أني كنت في وقت من أوقات تلمذتي في مثل هذه الحماسة للتعلم. حقا إننا لا نعرف للتعليم قيمة إلا إذا شعرنا حقا بأن لنا غاية نريد أن نحققها من ورائه.
وكانت الأشهر الثلاثة الباقية على الامتحان أكثر أوقات حياتي ازدحاما بالعمل والكد. كنت مثل شخص غرقت به السفينة في ليلة مظلمة من ليالي الشتاء العاصفة، فهو لا يلتفت إلى رهبة الظلام ولا إلى برد الماء ولا إلى شدة العاصفة، بل يحصر كل همه في الأنوار البعيدة التي تخفق على الشاطئ، ويجاهد بكل قطرة في حياته ليصل إلى البر سالما. لم أكد أختطف في كل ليلة إلا ساعات من النوم، ولم أكد أذوق من الطعام إلا ما يمسك الرمق. كنت أتحرك وأعمل في شيء من الذهول عن كل شيء سوى ما أدرسه، ولا أكاد أحس بشيء مما حولي ولا بأحد ممن حولي، ولما جاء الامتحان آخر الأمر ذهبت إلى مقر اللجنة، ودخلت إلى الخيمة المعدة لجلوس التلاميذ وجلست على المقعد الذي عليه رقم جلوسي وأنا في حال تشبه حالة الحالم. لم ألتفت إلى وجه من الوجوه التي حولي، ولا إلى صوت من الأصوات التي كانت ترن في أذني، بل كنت لا أكاد أفطن إلى أوراق الأسئلة التي كانت توضع أمامي، كأن عينا أخرى هي التي كانت تبصر لي، وكأن إرادة أخرى هي التي كانت تحركني، وكأن ذهنا آخر هو الذي كان يفكر لي، ولست أبالغ إذا قلت إني في هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الأسطر لا أكاد أذكر شيئا مما رأيت ولا مما سمعت في تلك الأيام التي لم يبق منها في ذاكرتي سوى صور حائلة تقرب من صور الأحلام البعيدة.
وكان صاحبي عبد الحميد يسألني في كل يوم عن إجابتي فأحاول أن أعيدها عليه فلا يتهيأ لي تذكر شيء منها، حتى خيل إليه أني أتعمد إخفاءها خوفا من إطلاعه على أخطائي، ولما مضت أيام الامتحان اعترتني حالة شديدة من الهم والغم والسخط على نفسي، وندمت على الحماقة التي دفعتني إليها فكرة سخيفة، ومر علي شهر كامل في هذا القلق ضائقا بنفسي وبمن حولي فكنت أخرج إلى الفضاء لأنفس عن كربي فلا أعود إلى بيتي إلا بعد أن يجهدني التعب حتى أسرع إلى النوم.
وكنت في يوم من تلك الأيام عائدا من رحلة طويلة في الريف حول المدينة، وعرجت على قهوة لأستريح قليلا قبل الذهاب إلى بيتي، فأقبل صبي من باعة الصحف يصيح: «نمر التلامذة!» فاشتريت منه صحيفة وأنا متلهف، وأخذت أجيل بصري في الأرقام ولكن عيني سبحت في الأعمدة المرصوصة، ولم أتذكر رقم جلوسي، ورأيت أرقام المتقدمين من المنازل في دمنهور فلم أجد إلا رقما واحدا وهو 2855. أكان هذا رقمي؟ أكان في رقمي عدد مكرر؟
وكان قلبي يخفق كالمجنون الثائر مع أني طالما وطنته على أني راسب، وأخذت أسأل نفسي أين ذهب رقم جلوسي. ألا يكون في جيبي؟ ووضعت يدي في جيوبي واحدا بعد واحد، ولكني لم أجد الورقة في جيب منها، وأخرجت محفظتي لعل الورقة تكون فيها. ها هي ذي! إنها هي بعينها وفيها العدد المكرر، وخفق قلبي أكثر جنونا وخيل إلي أن أقوم فأقول لمن في القهوة جميعا إني نجحت، وخيل إلي أن الناس جميعا ينظرون نحوي ويعرفون أني أريد أن أصيح بهم معلنا إليهم نجاحي، وقمت واقفا ولولا خوفي من الأنظار لجريت بأسرع ما أستطيع من السرعة حتى أصل إلى أمي وأختي لأخبرهما بالنبأ السعيد، ثم إلى بيت صاحبي عبد الحميد عباد لأحمل إليه بشرى نجاحي، وسرت مسرعا والجرائد الثلاث ترف في يدي، لم أجد وقتا لأطويها في رزمة منتظمة، ولو أطلقت لنفسي العنان لأخذت أضحك وأضحك كما يفعل الغريق بعد أن يصل إلى البر سالما، ولكني إن كنت لم أضحك فإن قلبي كان يفعل نيابة عني كأنه أصيب بنوبة هستيرية، ومررت على منزل صاحبي في طريقي، وأظن أني قطعت المسافة بين القهوة وبين بيته في أقل من خمس دقائق مع أنه كان في العادة يبعد بما لا يقل عن عشر، وطرقت الباب فنزلت إلي الخادمة تقول لي إنه لم يكن هناك، فقلت لها: «قولي له إذا عاد أني نجحت.» ثم أسرعت منصرفا ولم أقل لها من أنا.
واتجهت إلى منزلي لأحمل النبأ إلى أمي وأختي، وتذكرت عند ذلك فقط أن أختي منيرة هي الأخرى تنتظر النتيجة، فوقفت في مكاني ورفعت الجريدة أمام بصري تحت مصباح الشارع لأبحث عن رقم أختي، وكان شعوري بالخجل من نفسي عظيما؛ لأني لم أهتم بتذكر رقم جلوسها، وزاغ بصري مرة أخرى في الأرقام - لجنة دمنهور، مدرسة البنات - ولكنها كانت أرقاما كثيرة، فطويت الصحيفة وسرت فاترا حتى وصلت إلى بيتي ولم أدر ماذا أفعل، ولمحت منيرة الجريدة في يدي ورأيت الأرقام، فوثبت إلي وخطفتها وأخذت تفحص الأعمدة المرصوصة وأنا أنتظر في لهفة، ثم رأيتها تلقي الجريدة من يدها وتذهب صامتة ووجهها ينم عن حزنها، فانقلب ما كنت أحسه من الفرح المفرط إلى وجوم مفرط، ورثاء ومواساة، وذهبت وراءها إلى الغرفة لأسري عنها، وجاءت أمي بعد قليل فشاركتني في محاولتي حتى عادت منيرة إلى هدوئنا وضاعت علي الفرصة في مفاجأة مسرحية كنت أطمع فيها لو كنت أعلنت نجاحي لأمي وأختي بغير أن تكون عندهما فكرة عن تقدمي للامتحان.
نامعلوم صفحہ