فقال في شيء من الغضب: ماذا نصنع هنا؟
فقلت: بل ماذا تصنع في غير هنا؟ هنا بلادنا ولا مفر لنا من أن تكون هي بلادنا، أي بلد يقبلك كأحد أبنائها؟
أتقبلك إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا أو غيرها لتكون ابنا من أبنائها؟ لن تكون هناك إلا نزيلا غريبا تقضي أيامك في فراغ، أم تريد أن تذهب إلى بلد شرقي يمكن أن يكون أقرب إليك؟ أين؟ تعيش في تركيا؟ في سوريا؟ في العراق؟ في السودان؟ تعيش هناك على هامش الحياة وأهل تلك البلاد يجاهدون كما نجاهد نحن؟ هل ترضى أن تكون غريبا بين قوم يجاهدون من أجل أنفسهم وأنت ساكن؟ أم تريد أن تشارك هؤلاء في جهادهم وتتخلى عن الجهاد هنا؟
فسكت ناظرا إلي نظرة حزينة، وعلمت أنه يعاني صراعا عنيفا في أعماق نفسه، فأشفقت أن أزيده ضيقا وسكت آسفا، وقلت في نفسي: إن الوقت كفيل بإزالة الذكريات الأليمة.
ولكنه لم يلبث أن صدمني صدمة أخرى أعنف من الأولى عندما قال لي: على كل حال يا أستاذ سيد، هذا موضوع آخر ... أما عملنا في هذه الجريدة فسيستمر طبعا، وقد أطلب منك قريبا أن تقوم على إدارة الجريدة بدلا مني، سيستمر مرتبك كما كان على أن تكتب للجريدة قصة كلما أردت.
وشعرت بالدم يصعد إلى رأسي، أكتب قصة؟ الأمر أخطر من أن أكتب قصة؟ وهل أستطيع أن أكتب كل يوم قصة في الموضوع الواحد الذي يستولي على كل عقلي وقلبي؟ ما هو المصير الذي نتجه إليه؟ وهل يفرغ ذهني إلى أن أعيش مع الصور في قصة وأنا أرى الحياة من حولي تفور وتنفجر، ولا يدري أحد ماذا يحدث فيها غدا؟
وقلت مختصرا: أرجو لك التوفيق يا سيدي.
واستأذنت منصرفا حتى لا أزيده ضيقا إذا نطقت بالكلمات التي وثبت إلى طرف لساني.
وخرجت من عنده والأسف يختلط في قلبي بالحنق والحيرة والعجب، وخطر لي خاطر قوي أن أنقطع عن بريد الأحرار مهما كلفني ذلك من المتاعب، بل لقد هم بنفسي وأنا غاضب أن أعيد إليه مرتب الشهور الستة التي بعثت بها الجريدة إلى أمي في مدة السجن؛ ليكون جوابي شافيا لغضبة قلبي، ولكني لم ألبث أن سريت عن نفسي أثر هذه المقابلة، وأقبلت على الفضاء الطلق أعب منه حتى أروى بعد طول تعطشي إليه، وكان عبد الحميد في إجازة نصف السنة، ولكنه كان مشغولا عني برحلاته مع منيرة، فكنت أخرج وحدي كل صباح قاصدا أحد الأطراف البعيدة؛ لأقضي فيه يوما بعيدا عن ضجة المدينة؛ لأفكر فيما أستقبل به حياتي الجديدة. نعم كانت حياة جديدة بعد ميلاد جديد، وذهبت يوما إلى الأهرام مبكرا؛ لأتمتع بجولة إلى جانب الأثر الأشيب الذي يجتذب طلاب الروعة من أركان الأرض، وكان الناس هناك ينتشرون في الهضبة بعضهم يسير في جماعات مرحة، والبعض الآخر يسير مثنى، ولم يكن من يسير وحده غيري، فسرت في صحبة أفكاري حتى وصلت إلى قريب من الاستراحة الملكية، فتنبهت إلى صوت الحارس الذي يزجرني لأبعد، وقلت في سري: فرعون القزم هنا؟
ووثبت إلى صدري كل مشاعر الحنق الذي كنت أكبتها؛ حتى لا تعذبني في أيام سجني، هذا الرجل الذي تعذبت من أجله يقيم هناك ليتنزه، ولست أدري مع من يقيم في تلك الاستراحة، بنى فرعون خوفو هذا الأثر الخالد؛ لأنه كان يطلب مثوى لروحه، وهذا فرعون القزم يطلب استراحة لجسده، وتأملت من بعيد هندسة بناء الاستراحة ونقوش مداخلها، فبدت لي كأنها تسخر من نفسها، وقلت في نفسي: هكذا يزيف طالب المتعة فن القدامى، كان ذلك الفن في عصره رمزا للجلال الذي يملأ القلوب عندما كان الناس يؤمنون بشيء جليل في قلوبهم، ولكنه اليوم لا يزيد على حلية مزيفة، وبدت الاستراحة في عيني مثل مرقص خليع في هيكل عبادة، أما كان أولى بفرعون القزم لو بعد قليلا عن الأثر الجليل حتى لا تبدو السخرية واضحة؟ وأية سخرية؟ وماذا يصنع كل هؤلاء المنتشرون في الهضبة سوى أن يسخروا عند أقدام الهرم ولا يشعرون له إجلالا ، ما دام فرعون القزم يضرب لهم المثل في السخرية؟ ومن هذه الفتاة؟ هل أصدق عيني؟ أهذه فطومة؟
نامعلوم صفحہ