وكان حديثه سهلا شائقا يجري هنا وهناك في مواضيع شتى، فحدثني عن أبي وعن عمي الذي كان من قبل حكمدارا في دمنهور، كما حدثني عن نفسه عندما كان صغيرا فقيرا، وتعجبت من أنه لم يشعر بشيء من الأنفة عندما قال أنه بدأ حياته عاملا عند الحاح علي مطاوع تاجر الغلال، وأنه اقتصد من أجره بضعة جنيهات بدأ بها تجارة صغيرة، فاشترى بعض قناطير من القطن كان يجمعها من الفلاحين رطلين أو بضعة أرطال في كل صفقة، ثم حمل ما اشتراه على عربة نقل فكان يسير إلى جانبها حينا ويركب عليها حينا آخر حتى وصل إلى الإسكندرية، وباع ما اشتراه بربح كبير شجعه على الاستمرار في التجارة، ونظر إلي بعد ذلك قائلا: إذا شئت يا سيد أفندي أن تنجح في الحياة فلا تتعلق بالمظاهر. وارتحت عندما سمعته يناديني: «يا سيد أفندي».
وشجعني ذلك على أن أفاتحه بأني أريد أن أجد وظيفة في الحكومة. فأجابني قائلا: لماذا تريد أن تتوظف في الحكومة؟ إنها لا تعلم إلا الكسل والغرور.
فقلت له: أريد عملا أتكسب منه؛ لأني فقير.
ولم أشعر بالخجل أن أقول له إني فقير بعد أن سمعته يقول إنه كان في صغره فقيرا هو الآخر.
فتبسم قائلا: هذا حسن، وأنا في حاجة إلى شاب مثلك للعمل هنا، ولكن على شرط، ليس هنا مكاتب ولا سعاة ولا أجراس ولا أوامر. هنا عمل إذا كنت حقا تريد العمل. العمل من الصباح إلى المساء، والأعمال كلها سواء. ليس هنا عمل مهم وآخر تافه. كل شيء مهم كالآخر، كتابة النيشان على البالات مثل أمانة الخزانة، كلها تحتاج إلى الأمانة والدقة والجد.
وكانت طريقته في الكلام بسيطة، ولكنها حاسمة فقلت له: يسرني أن أعمل معك.
فتبسم ابتسامة لم أفهم معناها ولكنها تشبه قولي: سنرى.
وقال: سأنتظرك إذا شئت في الصباح. الساعة الثامنة تماما يبدأ العمل، وأنا هنا منذ الساعة السابعة والنصف.
فشكرته مخلصا وكان قلبي يخفق سرورا. هكذا وجدت العمل في لحظة ولم تعد بي حاجة إلى الوساطة للبحث عن وظيفة في الحكومة.
ولما استأذنت لأدعو أمي لننصرف دعاني السيد أحمد لأجول معه جولة في أنحاء الحديقة، وكانت منى تلعب هناك، فلما رأتني عرفتني من أول نظرة، ولكنها لم تجر نحوي ولم تطلب أن تركب فوق كتفي. كانت عند ذلك فتاة في نحو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، واتجهت نحوي فسرت إليها لأحييها، وكان وجهها ما يزال وجه الطفلة التي تشبه الدمية، شعرها الأصفر وعيناها الزرقاوان وابتسامتها الوديعة والغمازتان اللتان في وجنتيها، وأخذها والدها تحت إبطه وجعل يداعبها ويسألها: هل تعرفني؟ فهزت رأسها باسمة ولم تنطق بكلمة.
نامعلوم صفحہ