فضحك هو الآخر قائلا: لا مؤاخذة، يخلق من الشبه أربعين ...
ومد رجليه واستند إلى الكرسي قائلا: فرصة سعيدة على كل حال، أنا الحاج عبده صاحب محل الصابون العطري.
فقلت: مصنع؟
فأجاب ضاحكا: كل الناس يقولون هذا إذا سمعوا الاسم، ولكنه صالون حلاقة وأرجو أن تشرفنا، شارع المحطة بكفر الزيات، مع السلامة!
وكان القطار قد هدأ سرعته للوقوف في المحطة، فقام الرجل يستعد للنزول، وسألني أن أساعده على حمل ربطاته الكثيرة، فناولته إياها من النافذة وانشغل عني بمقاولة حمال المحطة حتى تحرك القطار.
وجلست إلى جانب النافذة في المكان الذي خلا من الرجل، وأخذت أنظر فيما حولي، ثم استرعى سمعي خصام رجلين من الركاب، وما لبث أن اشترك سائر الركاب في المناقشة، وأصغيت إلى حديثهم الحانق مرغما، وأنا أعجب من حرصهم على النزاع مع أنهم في رحلة، ولكني رجعت إلى نفسي فقلت: إن الخصام أمر طبيعي لا حيلة للناس فيه وإن كانوا في رحلة قصيرة، وهل حياتنا نحن إلا رحلة قصيرة مهما طالت؟
واستمرت المناقشة تخبو حينا وتستعر حينا حتى اقتربنا من القاهرة، فكانت تسلية مفيدة سهلت على الركاب قطع الوقت بغير أن يملوا، ألسنا نفعل ذلك عندما نقضي حياتنا في خصومات متصلة؟
ووصلت إلى القاهرة أخيرا وركبت الترام إلى «بريد الأحرار»، ولما صرت أمام المبنى الكبير وقفت في حيرة لا أدري ماذا أصنع بحقيبتي، ولو كانت حقيبة محترمة لما همني أمرها، ولكنها كانت قديمة من الورق المقوى ولا أعرف كيف أسمي لونها؛ لأني نسيت ماذا كان لونها عندما كانت جديدة، وكان لها قفل واحد سليم يعلوه الصدأ، وأما الآخر فكان يأبى إلا أن يمد لسانه إلى فوق كأنه يسخر مني، ورأيت على مقربة من الدار دكان بقال فذهبت إليها لعل صاحبها يرضى بإيداع الحقيبة عنده حتى أعود من مقابلة الأستاذ علي مختار، وكان صاحب الدكان رجلا كهلا له لحية وخطها الشيب وتبدو على ملامحه الطيبة، ولكنه بعد أن رد على السلام في بشاشة لم يرض أن أودع الحقيبة عنده خشية من أولاد الحرام الذين اعتادوا أن يضعوا في حقائبهم أشياء خبيثة يدسونها على الناس ليوقعوهم في التهم.
ففتحتها له وأنا في خجل شديد منها، وأخذت أنفض له كل قطعة فيها ليرى براءتها حتى قبل آخر الأمر أن يودعها عنده.
الفصل الثاني عشر
نامعلوم صفحہ