في جلسة الخميس السابع والعشرين من يناير، انعقدت المحكمة برئاسة القاضي «محمد عوض الله»، وعضوية القاضيين «محمد جنيدي ومحمود صالح »، ووكيل النائب العام «وائل عبد الله»، وسكرتير الجلسة. واستند الحكم على أن حكم محكمة النقض، الصادر سنة ست وستين، والذي جعل من لائحة المحاكم الشرعية وأرجح الأقوال من مذهب الإمام «أبي حنيفة»، ما لم يرد قواعد خاصة واجبة التطبيق نص عليها قانون المحاكم الشرعية، دون تفرقة بين قواعد موضوعية أو إجرائية؛ فإن هذا المنطوق للحكم يتصادم مع أحكام قانون 462 لسنة خمس وخمسين بإلغاء المحاكم الشرعية، وكذلك يغاير قانون المرافعات لسنة ثمان وستين، وكذلك بعد صدور دستور سنة إحدى وسبعين.
قانون 462 لسنة خمس وخمسين، الذي ألغى المحاكم الشرعية، وضع الأساس للتفرقة بين القواعد الموضوعية والقواعد الإجرائية التي تحكم مسائل الأحوال الشخصية، والتي أصبحت تخضع لقانون الإجراءات ما لم يرد حكم خاص بها في لائحة المحاكم الشرعية، أو في أي قانون آخر. وبعد صدور دستور واحد وسبعين، فإن تطبيق قاعدة أرجح الأقوال من مذهب «أبي حنيفة»، فهذا إعمال لأحد المذاهب قضائيا دون أن يصدر بها قانون. ونص المادة الثانية من الدستور بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، هو خطاب للمشرع، وليس للقاضي أن يعمله مباشرة بدون صدور تشريع. وبصدور قانون الإجراءات لسنة ثمان وستين، والذي نص في مادته الثالثة على «ألا يقبل أي طلب أو دفع لا يكون لصاحبه مصلحة قائمة يقرها القانون، والمصلحة التي يقرها القانون في هذا الصدد هي مصلحة حماية حق من أبدى الطلب أو الدفع أو حماية مركزه القانوني الموضوعي، ويجب أن تكون هذه المصلحة مباشرة.» وهذه الدعوى رفعت بحسبانها دعوى حسبة، لم يدع رافعوها أي مصلحة مباشرة وقائمة يقرها القانون، ولم تكن أحكام لائحة المحاكم الشرعية أو قانون آخر قد أوردت أحكاما تنظم شروط قبولها، وقانون المرافعات لم ينظم أوضاع هذه الدعوى في أحكامه. «حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى بالتفريق بين «نصر أبو زيد» وزوجته، وإلزام رافعيها بالمصاريف ومبلغ عشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة.»
11
بدأت الأنشطة الثقافية لمعرض القاهرة للكتاب في اليوم التالي لصدور الحكم، وفي يوم السبت الخامس من فبراير سنة أربع وتسعين، في الحادية عشرة، وفي أكبر قاعة للأنشطة، وبحضور جمع غفير، تمت مناقشة كتاب «قضايا فكرية» السنوي الذي يشرف على إخراجه المفكر «محمود أمين العالم»، عن «الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن»، وشاركت فيه بدراستي «أبو زيد والخطاب الديني»، وكانت ظلال القضية والحكم فيها مخيمين على الندوة، إلا أن السيد «محمد صميدة عبد الصمد» قدم استئنافا للحكم يوم العاشر من فبراير. ونشر د. «حسن حنفي» دراسة في مجلة الاجتهاد اللبنانية عن كتاباتي بعنوان «علوم التأويل بين الخاصة والعامة»، في عدد ربيع سنة أربع وتسعين. في تلافيف الدراسة يبعد نفسه عن اجتهاداتي، فيقول: «ليس المطلوب فرقعات الهواء وبالونات الاختبار، وإلقاء النفس في فم التمساح، ومد اليد للدغ العقرب، وإلقاء النفس إلى التهلكة، ودوس على ألغام الحقل فيضيع المؤلف ويقتل نفسه بيده؛ لنقص في الخبرة وربما رغبة في الشهادة.» وأشار إلى أن نقد الخطاب الديني لم يعد من اليسار الإسلامي بل اليسار العلماني، واصفا دراستي الأخيرة من كتابي نقد الخطاب الديني. وقال عن اليسار العلماني: «إنه خصيم للفكر الديني وليس أحد تياراته.» لكنه يعبر عن خوفه «أن يتم استبعاد نقد الخطاب الديني وحصار مؤلفه»، ويختتمها بقوله : إن دراسته لكتاباتي أكبر تحية لي.
أخذت في كتابة ردود على ردود الفعل لكتاباتي خلال العام الماضي، ونشرت في مجلة «أدب ونقد» حلقات شهرية، فبراير ومارس وأبريل ومايو ويوليو وسبتمبر. نشرت بعد ذلك في كتابي «التفكير في زمن التكفير»، عن دار سينا للنشر، استكمالا للنقاط التي لم أتناولها في دراستي «أبو زيد والخطاب الديني»، ركزت فيها على «الإمام الشافعي» بين البشرية والقداسة. وكانت ردود الفعل شديدة لمجرد تناول تراث الإمام الكبير نقديا. والإشكال ليس في «الشافعي» ولا التراث، ولكن في طريقة تعاملنا مع التراث، والخطاب الديني التقليدي يرجع للتراث من أجل الفخر والتعظيم، في مواجهة الضعف والتراجع في واقعنا المعاصر، فيكون التراث عباءة للاحتماء، وليس مجالا للدراسة والفهم والتحليل والبناء على إنجازات أجدادنا والإضافة إليها. ولن يحدث هذا بدون نقد ووقوف على مواطن الضعف لنتجاوزها، وبواطن القوة لنأخذها أسسا للبناء عليها. فكتابي عن «الإمام الشافعي» لم يكن دراسة في الفقه وأصوله، كما تصور من انتقدوه، بل هو دراسة في نظرية المعرفة كما يطرحها «الإمام الشافعي» من خلال علم أصول الفقه؛ لذلك ففقه «الشافعي» ليس موضوعي، بل الأصول النظرية وطريقة التفكير التي استخدمها من خلال إجراءاته المنهجية وطرق الاستدلال التي طبقها في بنائه. وكلمة الأيديولوجيا أستخدمها بمعنى: «المنظور الذي يحدد للإنسان الصواب والخطأ والثواب والعقاب، ما المسموح والممنوع.» وفصلت مقصودي بكلمة «نص» على أنه: «كل نسق من العلامات اللغوية وغير اللغوية يؤدي إلى معنى كلي.» وكلمة النص الأصلي، وهو في حالة التراث الإسلامي، هو القرآن. وكلمة النصوص الثانوية هي كل ما يترتب على النص الأصلي، مثل السنة واجتهادات العلماء والفقهاء في الفهم والتفسير؛ لذلك فكلمة النصوص الدينية السياق هو الذي يحدد معناها.
وتعبير «صياغة الذاكرة» الذي اعترض عليه الكثير يدور حول الخلاف في فترة انتقال الثقافة الإسلامية من الشفهية إلى التدوين في العصر العباسي الأول. فكان السؤال: إذا تعارض العقل مع المنقول عن السلف، فلأيهما تكون الولاية على الآخر؟ فأنصار ولاية العقل على النقل استخدموا التأويل من أجل رفع التناقض، وأنصار أن تكون الولاية للنقل تمسكوا بالدلالة الحرفية للنصوص، وحاولوا توسيع مجال النصوص، وحرصوا على شموليتها لكل جوانب الحياة من جهة أخرى؛ أي ترسيخ سلطة النصوص أو هيمنتها وشموليتها، وهي سلطة تضيفها الجماعة إلى النصوص، فكان المسلمون الأوائل يفرقون بين ما هو مجال للوحي وما هو مجال للخبرة البشرية؛ لذلك حينما ذكرت تعبير «التخلص من سلطة النصوص»، وليس من النصوص، بل من السلطة التي يفرضها البعض على النصوص من أجل فرض تأويلاتهم وتفسيراتهم وقراءاتهم هم للنصوص، ومن يختلف معهم يصبح مهرطقا وملحدا بل وكافرا.
لذلك فالآيات التي ذكرها الدكتور «محمد البلتاجي» ليدلل على شمولية النصوص بالإضافة إلى آيات الحاكمية الثلاث التي ناقشتها في دراسة إهدار السياق، أورد هو الآيات التالية:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (سورة الأحزاب: 26)،
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا (النور: 51)،
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء: 65)،
نامعلوم صفحہ