القرآن منتج ثقافي.
والردة هي «جحد شيء من القرآن، أو القول بأن محمدا بعث إلى العرب خاصة، أو إنكار كونه مبعوثا إلى العالمين، أو القول بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق في هذا العصر، أو أن تطبيقها كان سبب تأخر المسلمين، أو أنه لا يصلح المسلمين إلا التخلص من أحكام الشريعة.» لا يحتج علي بأن الدستور يكفل حرية العقيدة؛ لأن إعمال آثار الردة حسبما تقررت في فقه الشريعة الإسلامية ليس فيه ما يخالف أحكام الدستور ... هناك فرق بين حرية العقيدة وبين الآثار التي تترتب على هذا الاعتقاد من الناحية القانونية؛ فكل فرد حر في اعتناق الدين الذي يشاء في حدود النظام العام، أما النتائج التي تترتب على هذا الاعتقاد فقد نظمتها القوانين ووضعت أحكامها. خلاصة القول: هذه من دعاوى «الحسبة»، تدافع عن حق من حقوق الله تعالى، وهي الحقوق التي يعود نفعها على الناس كافة لا على أشخاص بأعينهم.
وقدم عشر حوافظ بنسخ من بعض كتابات «أبو زيد» وتقارير «البلتاجي وعبد العال» وصحف ومقالات، وطلبوا إدخال الأزهر في الدعوة. فأجلت المحكمة الجلسة للرابع من نوفمبر ثلاثة وتسعين، التي حضر فيها المدعون وممثل للأزهر، و«نصر أبو زيد» وزوجته وهيئة دفاع عنهما. وطلب المدعون إحالة الدعوى للتحقيق لإثبات خروج «أبو زيد» عن أحكام الإسلام. وطلب الدفاع فرصة للاطلاع، وكذلك مندوب الأزهر. فأجلت المحاكمة إلى جلسة الخامس والعشرين من نوفمبر. اقترب «حلمي النمنم» الصحفي بمجلة المصور من المستشار «محمد صميدة عبد الصمد» - وهو نائب سابق لرئيس مجلس الدولة - رافع الدعوة؛ ليجري معه حديثا للمجلة نشره بعدد التاسع عشر من نوفمبر، «كان عبد الصمد مترددا»، ثم قال له: «بصراحة لا أتحدث مع إنسان لا أعرف هويته هل هو مسلم أو شيوعي أو علماني.» - لكنك تحدثت لأحد المراسلين الأمريكيين؛ فالأولى أن تتحدث مع مصري. - الأمريكان أزفت من الشيوعيين والعلمانيين. المسألة في منتهى البساطة أننا نرى في كتابات د. نصر خروجا عن الإسلام ... وأنا لا أعرفه شخصيا، ربما أكون قد حضرت ندوة له في مايو الماضي، ولكني عرفت عنه من كتابات الشيوعيين، لقد فوجئت ب «لطفي الخولي» و«أحمد عبد المعطي حجازي» و«غالي شكري» يكتبون عنه، وهويتهم جميعا معروفة ويعادون الإسلام، وبسرعة اطلعت على كتبه «نقد الخطاب الديني»، و«الإمام الشافعي»، و«مفهوم النص»، ووجدتها جميعا خروجا على الدين، وأصابني الذهول حين علمت أنه يدرس هذه الكتب لشبابنا في الجامعة، فلجأنا إلى القانون. تقدمت بشكوى إلى رئيس جامعة القاهرة مطالبا إياه بمنع د. نصر من التدريس، ثم تقدمت ببلاغ إلى النائب العام، ووفقا للقانون 161 من قانون العقوبات، والذي يجرم إهانة الأديان في مصر، ثم تقدمت ببلاغ إلى المدعي الاشتراكي ليتدخل طبقا لقانون حماية القيم من العيب، وأخيرا لجأت في 10 يونيو إلى القضاء ... لقد لجأت إلى القانون وأبديت رأيي، ولا شأن بكل ما يقوله الشيوعيون والعلمانيون على أرض مصر، وأنا شخصيا لا أعرف زوجة د. نصر ولا أريد لها الإيذاء ولا الضرر، ولكن لم يكن أمامي غير ذلك من وسيلة لكي أثبت قانونا وبحكم قضائي ارتداد د. نصر لكي نمنعه من التدريس في الجامعة، وأنا قد رفعت قضية حسبة عن المجتمع كله دفاعا عن الإسلام.
في جلسة الخامس والعشرين من نوفمبر حضر المدعي «محمد صميدة عبد الصمد»، وحضر المحامي «خليل عبد الكريم» دفاعا عن «أبو زيد» وزوجته، وقدم مذكرة دفاع دفع فيها أولا: بعدم انعقاد الخصومة لعدم الإعلان في المدة القانونية. ثانيا: لكي تقضي المحكمة بالتفريق يتعين عليها أن تحكم بردة الزوج، ولا يوجد نص في القانون المصري ولا في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ما يجيز لأي محكمة أن تقضي بصحة إسلام مواطن أو كفره أو ردته. وأحكام التفريق التي صدرت دوائر الأحوال الشخصية كانت فيها ردة الزوج ثابتة بطريقة لا تدع مجالا للشك، مثل اعتناق مذهب البهائية، أو في حالة مسيحي أسلم ثم رجع إلى المسيحية. الدفع الثالث: بعدم جواز طلب إدخال الأزهر؛ لأنه ليس طرفا في الخصومة كما يعرفها قانون الإجراءات المصري، ولا يوجد في قانون الأزهر نص يجيز حضوره في القضايا ليبدي رأيه. الدفع الرابع: الاحتفاظ للمدعى عليهما بالرد في الموضوع بعد ذلك.
وحضر محام متضامنا مع «أبو زيد» وكذلك د. «ليلى سويف» ود. «أحمد حسين الأهواني» بكلية علوم القاهرة، والمحامي «عبد الله خليل» عن نفسه وعن المنظمة الدولية لحقوق الإنسان. فطلب المدعي «صميدة عبد الصمد» مدة للرد على مذكرة الدفاع، فأجلت الجلسة إلى السادس عشر من ديسمبر سنة ثلاث وتسعين.
عدت من مؤتمر علمي ببرلين بألمانيا حول مشكلات تفسير القرآن الكريم وتأويله في يوم نظر القضية، ولكن لم نحضر جلستها، لكني تألمت كثيرا من أن زميلي في كتاب قريتنا «مصطفى عمران» الذي حفظنا القرآن معا يقف في خطبته بجامع قحافة، ويكرر ما أشيع عني، حتى إن أخي «محمد» ثار عليه قائلا: لقد حفظتما القرآن معا. أصبحت القضية قضية رأي عام تواجهني في أي مكان أذهب إليه، توقفت أنا و«ابتهال» لشراء بعض الاحتياجات من سوبر ماركت للبيت خلال إجازة نهاية الأسبوع، وبينما أتجول بين الرفوف إذا برجل عجوز يشبه الآباء المصريين يراقبني ويدور حولي لمدة دقائق، واقترب مني وقال: «هو انت ...؟» أجبته: نعم، أنا فلان. انفجر الرجل غاضبا حتى تجمع الناس حولي أنا و«ابتهال» في المحل، صاح: «مش مكسوف من نفسك؟ إخص عليك، مولود من أب مسلم وأم مسلمة، وتسمي نفسك مسلم، وأنت جلبت الخزي والعار لهما بالطعن في القرآن وفي حضرة النبي، لعنة الله عليك، لازم أنت مجنون.» أخذ يكرر هذه الأسئلة مع تغيير ترتيبها.
نظرت إليه وقلت: «خلصت؟» فهز رأسه بالموافقة، فطلبت منه أن يسمعني وقلت له: «أنت لك مدة تلاحظني بعينيك، لو لم تكن تعرفني من الجرائد، فهل تحكم من تصرفاتي أني مختل عقليا؟» أجاب بالنفي، فقلت: «لو أحد زيك أو زي ابنك يعمل بجامعة في بلد أغلبيتها مسلمين زي مصر، وعايز يترقى ليزيد دخله لمواجهة غلاء الأسعار في السوبر ماركت دا، هل إنسان عاقل يقدم نفسه على أنه ملحد للجامعة، أم ينتظر حتى يترقى وبعدها يفعل ما يشاء. أنا مثلك في احتياج لمرتبي لمواجهة مصاعب الحياة، وهذه زوجتي.» وقدمت له «ابتهال». بدأ الرجل تهدأ ثورته، وقال: «طيب إيه المشكلة؟ لأن الناس التي اتهمتك ناس مش مغفلين، دول ناس أفاضل ومن أهل الله ...»
قلت: «أتفق معك أنهم من أهل الله. تريد معرفة سر المشكلة؟» هز رأسه بالموافقة. قلت: «أنا نقدت هؤلاء الرجال الأنقياء أهل الله لدعمهم شركات توظيف الأموال التي سرقت أموال المودعين باسم الدين.» بدأ الرجل بانفعال يصب لعناته على هذه الشركات، وذكر أن ابنه الذي شقي وتعب بالعمل في الكويت لعشر سنوات وضع أمواله في هذه الشركات، وضاعت كل نقوده. قلت له: «هذا هو السبب وراء ضجتهم، وهذا الرجل الذي قاد الحملة ضدي كان يعمل مستشارا لإحدى هذه الشركات، أنا مجرد مصري زيك لم يكن عندي مدخرات أستثمرها عندهم، لكني كنت أدافع عن المصريين مثلك ومثل ابنك وأحفادك، من ناس سرقوا الأموال تحت اسم الدين.» أقبل الرجل نحوي وقال: «يا بني لا تؤاخذني.» واحتضنني في وسط السوبر ماركت. شعرت بالارتياح. وفي السيارة مع «ابتهال» في رحلة الأربعين كيلومترا، عائدين إلى شقتنا بضاحية ستة أكتوبر، قلت لها: «أنا أحتاج أن أجلس مع كل مصري ومصرية حتى أشرح لهم الموضوع.»
9
توفي الدكتور «زكي نجيب محمود»، فكتبت مقالة نقدية لمجلة «المصور»، نشرتها في الرابع والعشرين من سبتمبر بعنوان «غربة الروح عن أهلها»، حيث إن معادلة النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر وصلت صيغتها عند «زكي نجيب محمود» إلى: إما أن نختار حياة فكرية حقيقية معاصرة، وإما نلوذ بأصالة الآباء فيما خلفوه من إرث عظيم. ووضع الإشكال بهذه الصورة يجعلها أزمة مثقف بين العاطفة ممثلة في التراث والفكر ممثلا للعصر، وليست أزمة مجتمع. الجانب الثاني هو تصور التعارض بين ثقافة الغرب وثقافة التراث؛ مما جعل من الضروري أن يخضع أحد الطرفين للآخر، فحاول أن يأخذ ما هو نافع من التراث لوقتنا الحاضر؛ ففرق بين الشكل والمضمون، بحيث نأخذ الشكل القديم والقيمة وطريقة النظر، ونترك المضمون القديم؛ أي محاولة التوفيق بين الطرفين التي أدت إلى التلفيق بينهما. ولم ينجح في إنتاج مركب جديد يستوعب الطرفين ويلغيهما في نفس الوقت، فكانت العودة للتراث بعد هزيمة سبعة وستين عودة ملاذ، عودة عاطفية. وانتقل المشروع عند تلاميذه على يد «حسن حنفي» من استخدام قناع التراث إلى تجديد التراث، لكن هذا ليس كافيا، بل لا بد من الانتقال من تجديد التراث عند «حسن حنفي» إلى القراءة العلمية للتراث عند جيلنا.
نامعلوم صفحہ