علمت بخبر وفاة والد د . ابتهال، فذهبت أنا وأحلام للعزاء، وكانت قد زارتنا في البيت أكثر من مرة، وتوثقت صداقتنا، وكنت معجبا بالحوار والنقاش والمناقرة المستمرة منها.
6
في مجال اهتمامي بالخطاب العربي المعاصر عرضت عرضا نقديا كتاب دكتور مهندس «محمد شحرور» «القرآن والكتاب»، الصادر من دار الأهالي للطباعة في طبعته الثانية سنة تسعين، فكتبت مقالا لمجلة «الهلال» بعنوان «لماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام؟» في عدد أكتوبر واحد تسعين. وأنا لا أنكر مشروعية القراءة المعاصرة للتراث، لكن لا بد من شروط لمثل هذه القراءة لكي تكون قراءة تأويلية منتجة، وليست تلوينية مغرضة؛ فالقراءة المغرضة تسعى إلى التلفيق بين طرفين؛ أحدهما ثابت راسخ بديهي فكريا، والثاني طرف متحرك قابل للتشكيل وإعادة القراءة والتأويل لينطق بكل ما تريده هذه القراءة. وهي عكس القراءة التوفيقية التي تقوم على حركة بندولية متبادلة، يتبادل فيها الطرفان التفاعل لكي يصلا إلى حالة من التصالح أو التوافق.
فلماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام؟ وهل الإسلام هو إطارنا المرجعي الوحيد في كل الشئون التي تطرحها علينا حركة الحياة؟ فأين مجال الخبرة الإنسانية؟ وأين فاعلية العقل الإنساني المستقل؟ لقد أصبح هم القراءة العصرية أن تكتشف في النصوص الدينية ما هو معروف سلفا؛ فكتاب «محمد شحرور» يسعى إلى حل إشكالية شمول المعاني الدينية لكل المعارف الإنسانية، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لكن الإسلام ذاته واقعة تاريخية في زمن ومكان معروفين، وسياق اجتماعي وسياسي معروف، ونصوص القرآن نزلت متواترة على بضعة وعشرين عاما؛ فعبر الفهم العميق لتاريخية الكتاب، وكشف ما هو جزئي ولحظي في تعاليمه، وتميزها عما هو مستمر ومتواصل، وليس عبر أن نكون عالة على عقول الآخرين. هم يكتشفون ويخترعون، ونحن نبحث عن هذه الاكتشافات في نصوصنا الدينية لنتعالى عليهم بوجودها عندنا من مئات السنين. رد د. «محمد شحرور» على المقال في عدد شهر يناير اثنين وتسعين، يشكك في مفهوم التاريخية، وحسنا فعل، فرددت عليه في عدد مارس فصلت فيه مفهوم التاريخي والتاريخية، ومفهومي المعنى والمغزى ودورهما في دراسة التراث والنصوص الدينية، نشر في مجلة «ألف» بعددها الثاني عشر سنة اثنتين وتسعين، مع جزء من حوارنا مع الأب «متى المسكين»، ودراسة لي بعنوان «مركبة المجاز من يقودها؟ وإلى أين؟» صدرتها بمقولة «ابن عربي» التي أراد أن يحل بها إشكاليات الفكر الديني، وليس الإسلامي فقط: «الأمر محصور بين رب وعبد؛ فللرب طريق، وللعبد طريق؛ فالعبد طريق الرب؛ فإليه غايته، والرب طريق العبد؛ فإليه غايته.» أردت أن أتعمق أكثر مما فعلت من قبل في دراسة أساس مبحث المجاز في الصراعات السياسية والاجتماعية والفكرية، خلال دراستي للماجستير، ودراستي عن الأساس الكلامي - نسبة إلى علم الكلام - لمبحث المجاز. هنا درجة أعمق لإشكالية المجاز والنزاع حول الحقيقة، ومن أين تبدأ في الماضي وفي حاضرنا؛ فمن يبدءون من عالم المحسوس المدرك باعتباره عالم الحقيقة الموضوعي، والذي نقيس عليه ما هو غائب وغير مدرك بالحواس، فنقيس الغائب على الشاهد، ويكون العبد طريق الرب وإليه غايته، حسب تعبير «ابن عربي»، وعلى هذا الطريق سار المعتزلة والفلاسفة العقلانيون، فجعلوا الهدف من رسالة الله هو الإنسان والعالم، والله سبحانه وتعالى تنزل برسل وأنبياء، والإنسان هو الغاية؛ فيتم الوحي وفق آليات الإنسان ، بلغته ومن خلال ثقافته بما يتضمنانه من مجاز، وتغير في الدلالة من المحسوس إلى المجرد، من المدرك إلى المعقول، من الشاهد إلى الغائب؛ فعالمنا هو الحقيقة، وفي عالم الغيب يكون المجاز.
الطريق الآخر هو طريق من بدءوا من الله، أصل الوجود، فيكون الرب طريق العبد، فإليه غايته؛ فالوجود حركة دائرية تبدأ من أصل واحد هو الله، تخلق عنه الوجود بالتجلي أو بالفيض، أو بالخلق من مادة قديمة عند آخرين، أو بالخلق من عدم؛ فخلق الله العالم والإنسان. والهدف هو عودة الإنسان إلى الله، وما اللغة إلا وسيط. ويكون عالمنا هو المجاز، والحقيقة هناك. ولكلا التصورين سند من نصوص الكتاب والسنة. ولم تهدأ المحاولات والمشروعات الفكرية التي تسعى لجمع التصورين في منظومة فكرية واحدة، من «أبي الحسن الأشعري» (ت: 330ه/942م) إلى «أبي حامد الغزالي» (ت: 505ه/1111م) إلى «ابن عربي» (ت: 638ه/1240م)، لكن السؤال هو: لماذا أخذ كل طرف بجانب من الظاهرة الدينية؟
الحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية هي المفسرة للخلافات الفكرية، وبالأخص الدينية؛ بين من يصرون على الحياة في العالم، وبين من يرون هذا العالم مجرد معبر أو مجاز للعالم الآخر؛ عالم الحقائق الأزلية الثابتة. حاولت دراسة هذه الإشكالية من أجل الكشف عن امتدادات هذه الرؤى التراثية في الخطاب الديني المعاصر، فوجدت أن ربط مركبة اللغة والمجاز بقاطرة الدين والعقيدة هو المسئول دون شك عن حالة الارتباط والتشوش في فهم الظاهرة جزئيا، لكن المسئولية الشاملة تقع على عاتق ربط مركبة الحياة بمستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والاجتهاد فيها، بعجلة الدين والعقيدة. وهو ربط ليس أصلا في العقيدة، بل حدث في ظل صراع اجتماعي وفكري في تاريخنا.
7
لم يغادرنا عام واحد وتسعين دون صدور حكم محكمة أمن الدولة طوارئ، بالسجن ثماني سنوات على الكاتب «علاء حامد»، بعد قرار مجمع البحوث الإسلامية ضد روايته، ومصادرة مباحث المصنفات الفنية لها، وحبسه بسجن طرة بعد فصله من وظيفته، ليأتي عام اثنين وتسعين بمطالبة الكاتب «فرج فودة» رئيس الجمهورية في لقائه مع الكتاب في افتتاح معرض الكتاب، بوضع قانون للإرهاب. وشهد المعرض محاولة مصادرة كتب المستشار «محمد سعيد العشماوي» من قبل لجنة أزهرية. شاركت في ندوة «الثقافة العربية والموقف من التراث» التي حاضر فيها «جابر عصفور وحسن حنفي وجمال الغيطاني» يوم سبعة يناير، لتعقد في اليوم التالي مناظرة احتشد لها الآلاف، بعنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، شارك فيها د. «محمد أحمد خلف الله، ود. فرج فودة» ممثلا للتيار المدني، والشيخ «محمد الغزالي» ونائب المرشد العام للإخوان المسلمين «الهضيبي، ومحمد عمارة»، وأدارها صديقي د. «سمير سرحان» رئيس الهيئة العامة للكتاب. أصبح الجو الثقافي مشحونا جدا بين الجبهتين. ونشر نص المناظرة مع استبدال العنوان إلى: «مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية».
أصبحت ممزقا بين مشاعري الدفينة تجاه «ابتهال»، فأكتشف كل يوم ما يقربني إليها، نلتقي يوميا في الجامعة منذ بدء الدراسة. حرصت على أن أخفي مشاعري نحوها؛ فأنا أعتز بصداقتها، ولا أريد لشيء أن يعكر صفوها وسموها العميق. عاتب على نفسي، مجرد التفكير في التصريح لها، فارق السن؛ فهي في سن أختي الصغيرة آيات، لا أقول ابنتي. شابة عذراء وأنا متزوج ولا أنجب. سألتني عن سبب حزني، فتعللت بذكريات من مرحلة الطفولة. مبهور أنا بعزمها وقوة شخصيتها. تأخذني إلى عالم جديد وأماكن مبهرة. في يوم خريفي جميل أمام بوابة الكلية، كنا في انتظار بعض الأصدقاء، متأخرين، في طريقنا إلى مناسبة ثقافية، نتجاذب أطراف الحديث، فقلت لها بصوت طفولي مازح: غريب أوي يا «ابتهال»، مع كل صداقاتك وعلاقاتك ولسه مافيش ارتباط ولا حتى خطوبة؟ قالت بمزاح: ليه عندك عريس؟ - ربما. - هو انت بقيت خاطبة؟! - إيه رأيك في واحد زيي؟ - زيك؟ ولا أنت؟
قلت بتردد: أنا. فوجئت بصوتها بدون تردد: موافقة. وصمت بيننا الحوار، ولم نعرف أين يذهب بعد ذلك. عدة أيام وتشجعت أن أفتح معها الكلام مرة أخرى: «ابتهال، لما كلمتك عن الزواج لم أكن أمزح.» قالت بنبرة واثقة: «مين قال إنك بتمزح، وتعجبت ليه أخذت منك الوقت الطويل دا كله علشان تقولها؟» - يمكن لأني مستكترك على نفسي، ولا أستاهلك.
نامعلوم صفحہ