لقد أردت، لماذا، لا أدري، هكذا أردت، أن أعطي نفسي، هذا الكنز الذي تتهدم الدنيا إذا أعطيته بلا زواج، أعطيته أنا بلا زواج ولتتهدم الدنيا بعد ذلك، وليفعل أبي هذا التركي ما شاء له هواه، لماذا يبيح لنفسه هو أن يحب ويختار ويتزوج أمي الفرنسية، ولا يكون ذلك لي أنا؟ هل أحببت؟ لقد أردت، ولكن هل أحببت؟ ما يهم، نامق فتى تتسابق إليه نساء مصر جميعا، ما لي ولمصر، أبي تركي وأمي فرنسية، إذا تهدمت الدنيا هنا أستطيع دائما أن أذهب إلى أهل أبي في فرنسا، باريس مدينة النور، هل فيما فعلت نور؟ لقد أردت، وفعلت، نامق، لا يملك شيئا إلا نصيبه من الوقف، ولو شاء عمه لأصبح لا يملك شيئا. ولكن هل أفكر في الزواج به؟ وهل هذا هو الطريق إلى الزواج إن كنت أريده؟ إنما أردت أن أعطي نفسي وبلا سبب، بلا حب، بلا تفكير في زواج.
أما لماذا اختارت نامق فهذا حديث آخر؛ ليس نامق صغيرا إنما هو يحث الخطى إلى الأربعين. وقد كان زوجا من قبل، وله ابنته نديرة من زوجته إلهام الابنة الكبرى لفهمي باشا محسن المستحق في الوقف. وقد انتقل بوفاته الاستحقاق في الوقف إلى ابنته إلهام، ولكن هذه القرابة وهذا الزواج لم يمنع نامق أن يوطد علاقته بالسيدة جيهان عثمان زوجة نصر الدين بك فتحي، وكانت هذه العلاقة بين نامق وجيهان تسمح له أن يكون معها في غرفة نوم واحدة، بل وفي سرير واحد. وقد كانت هذه الحجرة وهذا السرير في أغلب الأحيان بمنزل سعادة نصر الدين بك فتحي.
وفي يوم سافر فيه نصر الدين بك، وخلت القاهرة بنامق وجيهان، وضمهما منزل نصر الدين أول الليل ثم ضمتهما غرفة النوم والسرير آخر الليل، وعاد نصر الدين إلى البيت دون أن يسافر ووجد مكانه في السرير مشغولا، وكان نصر الدين بك من الذين يحملون المسدس في جيوبهم، فهو يخرج مسدسه في سرعة ويطلق النار على ذلك الرجل الذي شغل مكانه. وتصيب الرصاصة كتف نامق، ويزيط البيت ويستدعى الأطباء، ونقل نامق بك إلى منزله حتى لا يذهب إلى المستشفى، وتتواكب الأسئلة لتكشف من الأمر ما ينبغي له أن يستتر. وهكذا دبر الأمر ببراعة ليصبح ذائعا شائعا في كل مكان؛ فقد لعب التكتم دوره في إذاعة الخبر، أصبح نامق بين ليلة وصباحها رغبة نساء المجتمع جميعا.
ومنذ أن شفي نامق وهو لا يكاد يجد فرصة ليختار، فقد أصبحت السيدات هن اللواتي يخترن أنفسهن له. فليس من الغريب إذن أن تجد نازك نفسها راغبة في هذه الصلة، ولا بأس عليها أنها ليست سيدة، وما الذي يمنع أن ينقلها هو من آنسة إلى سيدة؟ لقد شبت ودوي نامق يهوم في كل أفق تتجه إليه، وألقت إليه هذه النظرات الواعدة، وما زالت به حتى كان هذا اللقاء في بيته ولا يدري به أحد إلا صديقتها كريمة؛ إن كريمة تعرف عنها كل شيء. - أهلا كريمة. - هيه، ما الأخبار؟ - أبدا، لا يوجد. - تذهبين إليه الليلة؟ - لا أدري. - لا يا حبيبتي، قولي لي حتى أعد نفسي. - هل عندك شيء الليلة؟ - الواحدة يجب أن تهتم بمستقبلها. - عندك الليلة مستقبل؟ - طبعا. - مثلي أنا ونامق؟ - ليس تماما. - لا أفهم. - أنت وصلت لآخر الشوط. - وأنت؟ - أنتظر الزواج. - وهل يهم الزواج إلى هذا الحد؟ - يا حبيبتي أنت لا يهمك، أما أنا فإن لم أتزوج فلا حياة لي. - ومستقبلك وكيل النيابة؟ - شاب طيب. - تلتقيان بالشباك كما هي العادة؟ - يمر من تحت الشباك قبل المغرب وقد كوى طربوشه ولمع حذاءه، ينظر في حياء إلى أعلى، إن رآني وقف، إن ابتسمت حيا، إن كشرت انصرف. - يا عيني! - إن قابلته رفض أن يتزوجني. - فأنت إذن تنصبين الشباك. - ولا بد أن تصيب. - هل سيأتي الليلة؟ - لقد بدأ يتكلم في الخطوبة. - فموعدك هام. - إذا كنت لا تريدين أن أبقى. - المفروض ألا تكوني في البيت حين يجيء. - لماذا؟
يا حبيبتي أنت لا يهمك، أما أنا فإن لم أتزوج فلا حياة لي. - لتتظاهري أنك لا تعرفين. - أمس قال إنه يريد أن يخطبني. - هل احمر وجهه وهو يقول لك هذا؟ - إنه أحمر، وطربوشه أحمر، ويضع وردة حمراء في جاكتته. خجول بطبيعة لونه، مهما يخجل لا يستطيع أن يزيد لونه احمرارا. - المفروض أنك لم تريه رسميا. - كيف؟ - الشباك غير رسمي كما تعلمين. - ألم أقل لك إنه صديق أخي، وكان يجيء معه إلى البيت ونلتقي؟ - آه صحيح، فما حكاية الشباك؟ - تعجبه. - قرأ عن سيرانودي برجراك؟ - ولكنه ليس قبيحا. - هل عندك فستان يليق بالمناسبة؟ - أنت تعرفين كل فساتيني. - وأنت تعرفين كل فساتيني. - لا مقارنة. - انتقي ما تشائين. - حقا؟! - أنت لن تخطبي مرتين. - فأنت لا تريدينني الليلة؟ - ارجعي إلي حين تنتهي الخطوبة. ••• - هيه هل نقول مبروك؟ - طبعا، أنت تعرفين كريمة. - ماذا حصل، احكي لي. - قرأ أبي الفاتحة. - ومتى الزواج؟ - حالا. - مستعجل؟ - سيجن. - يبدو أنه ليس وحده الذي سيجن. - على فكرة، هل عرفت أن محمد باشا الأزميرلي مريض؟ - عم نامق؟ - نعم، ناظر الوقف. - بالنسبة لنامق الأمر لا يهم، سيصبح حسن بك ناظرا على الوقف مكان أبيه، ويظل يأخذ نصيبه منه. - لا أظن. - كيف؟ - هناك إشاعة تقول إن حسن لا يريد أن يكون ناظر الوقف. - حقا؟ لماذا؟ - إنه يحب السفر، والوقف سيمنعه من هوايته. - فمن يكون ناظر الوقف؟ - نامق بك طبعا. - ماذا؟ - ألقتها نازك، ثم ألقت عينيها العميقتين إلى فراغ، لحظة، ثم لحظة، ثم نظرت إلى كريمة. - ماذا قلت؟ - طبعا، هذه شروط الوقفية، يتولاها الابن الأكبر من أولاد الأخ التالي؛ يعني نامق. - من قال لك هذا؟ - فتوح وكيل نيابة، يحفظ هذه الأمور غيبا. - إذن؟ - نامق سيكون ناظر الوقف. - هل يستطيع فتوح أن يحضر لي صورة من الوقفية؟ - ممكن، فقط ماذا أقول له؟ - اسمعي، لا داعي لأن يحضر الوقفية جميعها، فقط اسأليه وأنتما تتحادثان، ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في ناظر الوقف؟ ••• - يقول إنه يجب أن يكون بالغا رشيدا عاقلا حسن السير والسلوك طيب السمعة. - ماذا؟ - طيب السمعة. - ألا يجوز أن تذكر حكاية جيهان؟ - حكاية جيهان نسيت. - من قال لك هذا؟ - أنا سألت. - لماذا نسيت؟ - لأنه إن لم يعين نامق فالمرشح لنظارة الوقف سليمان أخوه، وهو كما تعلمين سفيه ومجنون، والمنتفعون بالوقف لن يقبلوه. - فحكاية جيهان إذن نسيت؟ - يجب أن تنسى. - ماذا يحدث لو ظهرت حكاية أخرى مثل حكاية جيهان؟ - ماذا؟ ماذا قلت؟ - لا شيء، لا شيء، أتخرجين معي؟ - الليلة؟ - الليلة. - لن تجدي نامق الليلة، إنه مشغول مع عمه. - لا يهم، سيعود. - سيتأخر. - وما البأس أن أتأخر عندك وأنت مقدمة على زواج؟ - تذهبين عندي إذن وتبقين فترة، ثم نذهب إلى نامق. - لا ينقصك الذكاء. - تلميذتك.
4
مرت شعور عليها منذ أسلمت نفسها له، لقد أسلمتها له لأنها ثائرة على أبيها وعلى التقاليد، ولأنها تريد أن تهدم هذا الحائط الذي يفرضه أبوها عليها. كانت في نفسها تسخر من أبيها ومن هذه القيود الذي يظن أنه يستطيع أن يفرض بها العفاف عليها. إنها تستطيع حين تشاء أن تصنع ما تشاء، وكانت تقع في نقاش مع نفسها لا يبلغ مستوى الصراع، وإنما كانت تعتقد أنها في اللحظة الأخيرة ستمتنع وتخشى الفضيحة، ولكنها ما تلبث أن ترى الفضيحة نفسها شيئا غير مزعج، فقد شهدت اللواتي آثرن الفضيحة لا ينتقم منهن المجتمع وإنما يصبحن همسة بين الأفواه ثم لا شيء بعد ذلك.
فهن حيث يدخلن موضع احترام الناس، وهن يتمتعن بجو أثيري خاص يجعل منهن مادة نادرة لا تماثلهن فيها الأخريات اللواتي لم تثر حولهن الهمسات، وهي لا يضيرها أن تكون هذه الهمسة، بل إنها يسرها أن تكونها، وهي تستمتع، تستمتع باللقاء الخفي وبالأسرار لا تعرفها إلا كريمة، وهذه الخفقة المجنحة التي ترفرف في كيانها كله حين تستعيد ما كان، وتستمتع بنفسها حين تعود من بيته لتكون مرة أخرى هذه الفتاة البريئة التي تخضع لما يفرضه عليها أبوها من رقابة، وتستمتع بهذا الوجيب وهي تنتظر اللقاء، وتستمتع بما تعده لهذا اللقاء، تعد ما ستقوله ثم تنساه، وتستمتع بما تعد وتستمتع بما تنسى، ولا تفكر في الغد إلا إذا كان الغد يحمل اللقاء، إنها في هذه الشهور تعيش حبا، أو هي توهم نفسها أنها تعيش حبا، لا يهم، وما الفرق بين الحقيقة والوهم ما دام كلاهما يصل بها إلى هذه النشوة التي تجتاحها؟ ولكن المؤكد أنها تعيش نفسها كما تريد لنفسها أن تكون، تلك هي الحياة التي تحب أن تحياها، وهي تحياها، أسطورة هي من أساطير الليل واللقاء المستخفي والآهة الحالمة والهمسة النشوى، كم من النساء مررن بالحياة فما خلدن كما خلدت. أولئك اللواتي أحبهن الملوك، أنها تريد أن تكون واحدة من أولئك، لا تحب أن تمر بها الحياة فلا تلقى إليها نظرة تعرف ولا ومضة ذكرى، إنها تريد أن تدمغ الحياة حولها باسمها، فلا بد أن تذكرها الحياة، أهذا هو الطريق؟ إنها لا تعرف طريقا غيره، قد يعتبره أولئك الأصنام أصحاب الياقات المنشاة والطرابيش الحمر الصارخة الاحمرار نوعا من النزق، ولكنهم جميعا مع كل آرائهم يتمنون منها نظرة أعجاب أو نظرة تعرف. هكذا كانوا يصنعون مع اللواتي آثرن الهمسات قبلها. وحين تثير الهمس لن تتغير معها القاعدة، إنها لعبة لا يبدي فيها الناس حقيقة مشاعرهم، وإنما تتعارض رغباتهم الحقيقية مع الألفاظ السخيفة التي يقولونها، يستجدون بألفاظهم رضاء الرأي العام، وتستجيب مشاعرهم لرغباتهم الخاصة التي تمور في نفوسهم وتعربد صاخبة بلا قيود من عرف أو مجتمع أو رأي، عاما هذا الرأي أو خاصا.
ولكن الأمر الآن يختلف، إنه سيصبح ناظر الوقف، فهل ترى أستطيع؟ هل ترى أستطيع؟ وما مصير الهمس؟ والسحر الأثيري؟ وأين يمكن أن يذهب هذا؟ إن الهمس حينئذ سيكون أقوى أثرا، إنني أستطيع أن أثير الهمس في أية لحظة أريد، في أي وقت أشاء، وتحت أي ظروف تبدو، الغنى، السلطة، الحب، والهمسة، أكون في التاريخ ذكرى، أكون ملتقى النظر، همسة العجوز إلى نفسه إن خلا إلى نفسه، أمل الشباب في أحلامه المجنحة، هذه الفكرة التي تفرض نفسها دون أن يستدعيها الفكر، هذه الكلمة التي تثب على آمال الرجال دون تفكير، في اللحظة التي يفكر فيها المرء يأمر تفكيره أن يتجه إلى حيث يريد، ثم تأتي لحظة على الفكر يتمرد على صاحبه، ويفكر هو في غير خضوع، أكون هذا التمرد، لهيب خيالهم، أجنحة آمالهم، له، واحد من هذا الكون العريض، واحد فقط، الناس جميعا، من أعرف ومن لا أعرف، ألا يجتمع الواحد في الجميع، إنما الواحد من الجميع، وما لي لا أجمع الواحد مع الجميع؟ وما البأس، في وضع خاص، في مكان معين؟ ولكنه بعد منهم، معهم، كريمة، أولاد، الوقف. - ستصبح ناظر وقف. - ولكنك أهم عندي. - أريد أن أكون جادة بعض الوقت. - الآن؟ - طبعا. - في أول اللقاء. - لن يكون هناك لقاء إذا لم نقل ما نريد. - أهناك ما يقال؟ - طبعا. - قولي. - ستصبح ناظر الوقف. - ولكن هذا لن يمنع لقاءنا. - المسألة ليست مسألة لقاء. - إذن؟ - لا بد لناظر الوقف من زوجة. - ماذا؟
وصمت، وصمتت، وطال الصمت، في لحظة خاطفة أدرك كل ما تريد أن تقوله، وفي لحظة خاطفة أدركت أنه فهم ما تريد أن تقوله، فكان الكلام بينهما عديم الجدوى، ولكن ومضة خطرت في ذهنه: ولكن ... - نعم؟ - لا، لا شيء. - ماذا تريد أن تقول؟ - فقط لم يكن من المقدر أن أكون ناظر الوقف. - أتظن أنها خطة مدبرة! - لا، أبدا، وإنما فقط ...
نامعلوم صفحہ