ويتجه نادر إلى السلم، وتتجه كريمة ومنيرة إلى جناح نازك. وحين استقر بها المقام في الغرفة الملحقة لغرفة النوم. - أين الهانم يا لالا ألماظ؟ - لا أدري. - لا تدري؟ - والله أنا أدري ولا أحد يدري. - هل جننت؟ - وما له؟ لقد بلغت السن التي يجب فيها أن أجن. - يا رجل اعقل وقل لنا أين الهانم. - أصبحت لها عادة غريبة. - عارفاها. - عارفاها؟ - لقد قلتها لنا عشرين مرة في السنوات الأخيرة. - إذن فأنت عارفاها؟ - تحب أن تنام أحيانا في الجناح الشتوي والوقت صيف. - أنت عارفاها، أترين هذا الهواء الذي يرد الروح؟ الجناح الشتوي الآن فرن ولكنها تذهب إلى هناك فجأة ولا نعرف متى تذهب، ولكننا نحس بها فقط وهي عائدة. - أليست حرة؟ - وهل قلت شيئا؟ - أنت دائما تتعجب. - كان لالا بشير الله يرحمه يتعجب معي أيضا. - كم عمره حين مات؟ - لا أعرف، إنما هو أصغر مني. - وأنت كم عمرك؟ - لا أعرف، ولكنه قبل أن يموت كان يقول لي إن عندي أكثر من ثمانين سنة. - اقتربنا من الوصول، ومتى مات؟ - كان يلاعب نادر بك بالعجلة ويقلب له عينيه، ونادر بك يضحك ولالا بشير فرحان الدنيا لا تسعه. ثم نادى الأستاذ ميخائيل نادر بك للدرس وصعد لالا بشير إلى حجرته ولم يغادرها بعد ذلك. - يعني من حوالي اثنتي عشرة سنة. - مثلا؟ - لالا ألماظ أنت تقترب من المائة. - وما له؟ - أخيرا نازك هانم. - أهلا كريمة، أهلا منيرة. - أهلا بك يا تنت. - ماذا بك؟ - ألا تعرفين؟ - كلها سنة أو سنتان ويعود. - أنت لا تعرفين معنى سفره بالنسبة إلي. - بل أعرفه تماما. - لا أحد يعرف. - حتى ولا أنا؟ - ولا أنت. - لقد دعوناه على العشاء.
وصمتت نازك فترة ثم قالت فجأة: عند عودته.
وصمتت مرة أخرى ثم عادت تقول: لا بد أن يفعل ما أريد.
وفهمت كريمة ولكنها أرادت أن تبدو وكأنها لم تفهم: وما الذي تريدينه؟ - الذي تريدينه. - وهل أنت متأكدة من قدرتك؟ - أنت تعرفين أنني متأكدة.
ونظرت كلتاهما إلى منيرة، يخيل إلي أنني أعرف ماذا تريد هاتان السيدتان، ولعلني أيضا أريد، ولكن ليس هكذا يتم ما أريد، حذار أن تفكرا في أمري كأنني غير موجودة، إنني موجودة ولا أحب أن ينكر أحد وجودي، إنني موجودة دائما. ••• - لماذا لم ألحظ منيرة إلا اليوم؟ قبل سفري بأيام، إنها جميلة، كنت أستطيع أن أخرج معها في السيارة، خسارة فات الوقت. - لماذا ينظر إلي هكذا؟ ماذا به؟ ألست أنا منيرة التي يعرفها منذ نحن أطفال؟
15
في لندن انفرد صالح بنادر، وبدأ فأدرج اسمه في مدرسة نظامية، واتفق مع مدرسين له في اللغات الأخرى غير الفرنسية؛ فقد كانت الأوامر من الباشا تقضي بأن يعود نادر من إنجلترا شخصا مثقفا.
وبدأت الدراسة. ووجد نادر نفسه لأول مرة مثله مثل التلاميذ الآخرين ينطبق عليه ما ينطبق عليهم من أوامر، وضاق بهذه الحياة الجديدة وأراد أن يتمرد، ولكن وطأة صالح عليه كانت شديدة، ولولا وجود نعيم معه لأصبحت قتامة لا يمكن احتمالها.
واضطر نادر أن ينتظم في الدراسة، وأن يذهب إلى المدرسة في مواقيتها، وأن يتلقى دروسه في البيت في انتظام. وكان صالح قد حدد مواعيد للترويح عن نادر فكان يصحبه هو نعيم إلى مسارح لندن مرتئيا أن في هذا الترويح نوعا من الثقافة أيضا. ولم يكن نادر غبيا؛ فقد استطاع أن يستفيد من المدرسة ومن الدروس، واستطاع أن يتقن الفرنسية التي كان يعرفها اتقانا تاما إلى جانب الإنجليزية، كما استطاع أن يتكلم الإيطالية أيضا.
وكانت خطابات صالح إلى الباشا تطمئنه، وكان الباشا سعيدا بهذه الأنباء.
نامعلوم صفحہ