الفصل السادس والعشرون
الذهاب إلى العرب
وصل الأمير عباس وزوجته وأولاده إلى حاصبيا كما تقدم، وخرج الأمراء الشهابيون ورجالهم للقائهم إلى سوق الخان، ولم يقابلهم بإطلاق البنادق على جاري العادة؛ لأن الأمير عباسا أرسل ينهاهم عن ذلك، وأمراء حاصبيا أنفسهم كانوا يخافون إيقاظ الفتنة بأية وسيلة كانت، لكن حذرهم لم يجدهم نفعا، ولما وصل الأمير سعد الدين إلى حاصبيا مرسلا من قبل والي دمشق ليجمع الأموال الأميرية من الدروز؛ قص على الأمير عباس ما أشار عليه به أحد أصدقائه في دمشق، وكان الأمير عباس يعرف هذا الرجل، ويعرف أنه واسع الخبرة شديد الفراسة، فقال للأمير سعد الدين: لا رأي لي بالإقامة بينكم بعد الآن، ولا أظن أنهم يضمرون لكم إلا الشر، وقد دعاني الأمير عمر الفاعور، أمير عرب الفضل، إليه فأرى في تلبية دعوته السلامة . ثم أخبر زوجته وأولاده بما عزم عليه، فوقع الخبر على زوجته وقع الصاعقة؛ لأنها كانت ترى البدو الذين يشتون في ساحل بيروت وهم في حالة من القذر تشمئز منها النفوس، فظنت أن كل البدو مثلهم، أما الأميرة سلمى فطربت أولا لهذا الخبر؛ لأنها كانت تود أن تقف على حال البدو في قفارهم، وترى معيشة نسائهم وبناتهم، وتحقق بالخبر ما قرأته عنهم بالخبر، وكانت تحب ركوب الخيل فتصورت نفسها راكبة مع أميرات العرب يجبن القفار وينشدن الأشعار فطربت نفسها لذلك، ثم تذكرت أنها تبعد عن السر هنري، وقد لا تعود تراه، فخفق فؤادها وصعد الدم إلى وجهها، ثم تقلص عنه فاصفرت وجنتاها وارتجفت شفتاها، وجالت الدموع في عينيها، فألقت جبينها على يدها، وحاولت أن تنسى كل شيء حتى وجودها.
وسر أخواها بهذا السفر؛ لأنهما كانا يحبان ركوب الخيل أيضا ولم، يغتظ منه إلا أمها وأم يوسف، وكادت أم يوسف تعدل عن الذهاب معهم، وودت أن ترجع إلى كفر شيما أو بيروت، ولكنها لم تجد من يوصلها إليهما، فعادت تندب زوجها وأولادها، وسلمت بالذهاب مع الأميرة هند مكرمة وهي لا تنشف لها دمعة.
وكان الأمير عباس على وفاق مع الست نائفة أخت سعيد بك جنبلاط، فأرسلت معه اثنين من رجالها ليوصلاه إلى عرب الفضل، ويخبرا الدروز الذين يلتقي بهم في الطريق أنه من أصدقائهم، ولم يكن السير شاقا كما ظنت الأميرة هند، ونزلوا في الطريق على مشايخ الدروز والعرب إلى أن وصلوا المزار في جبل عجلون، فالتقاهم الأمير عمر بخمسمائة فارس رامح على بعد ساعتين من مضاربه، وكانت عيونه مبثوثة في البلاد، فأوصلت إليه أخبارهم قبل وصولهم بيومين، ولما دنا من الأمير عباس ترجل الأميران وتصافحا، فترجل الفرسان كلهم في أقل من طرفة عين وعلا صهيل الجياد، ثم دنا الأمير عمر من الأميرة هند، وقبل يدها وعاد إلى الأميرة سلمى، فطارحها السلام مصافحة، وقبل يده بعد أن صافح بها يدها، وكانت مسفرة عن وجه يخجل البدر، فوقه عينان تفتنان الظبي، وقد توردت وجنتاها من هواء الصحراء ومما جاش في صدرها من الفخار لما رأت الجياد تتدفق كالسيل المنهمر، كأن الأخلاق التي غرست في نفوس أسلافها، وهم في بطحاء مكة وجبل كامل، لم تزل من خلفائهم، بل بقيت آثارها فيهم تظهر كلما حانت لها الفرص ونبهتها العوامل.
وكان الأمير عمر شابا في نحو الخامسة والعشرين طويل القامة، أبيض الوجه، أسود العينين، ولم يطلق العنان لعارضيه على جاري عادة العرب، ولا جدل شعر رأسه كما يفعلون؛ لأن أباه أحضر له معلمين من دمشق، فعلموه مبادئ العلوم، وزار دمشق غير مرة، وتزيا بزي أهلها، وكان لابسا قفطانا من الأطلس الأحمر، فوقه رداء من الجوخ الرصاصي، وعلى رأسه كوفية وعقال من الحرير والقصب، وتدل ثيابه ورائحته على أنه عائش في نعمة ونعيم، فسرت الأميرة سلمى بمنظره وطلاقة وجهه.
ثم ركب الأميران وركب الفرسان لركوبهما، وانشقوا شطرين؛ فسار الأمير عباس والأميرة هند في المقدمة، والأمير عمر والأميرة سلمى وراءهما وأخواها وراءها، ثم سائر الخدم والحشم، إلى أن بلغوا مقدمة الفرسان، وكان السهل قد لثم الجبل، فصعدوا فيه بين المناهل والغدران، وواصلوا السير على هذا النمط إلى أن وصلوا إلى مضارب الأمير عمر، فلقوا مئات من النساء بالمزاهر والدفوف قد خرجن للقائهم، وهن ينشدن نشيد الترحيب ويقلن:
هلا بالضيف هلا بالضيف
أمير شهاب عزيز ومهاب
وآل الفضل ضيوف الفضل
نامعلوم صفحہ