ثم استدعياه وسألاه عن الشهابيين، وتدرجا معه في الحديث إلى مشترى الأملاك؛ أي الأراضي المزروعة توتا، وجنائن في ساحل بيروت ووطأ نهر الكلب، فوجداه على تمام الخبرة بأحوال الشهابيين، واتفقا معه على السمسرة وعلى أن يذهب ويعاين الأملاك ويأتيهما بوصفها.
وقام من ساعته لهذا الغرض، فاجتمع برجل اسمه عبد الله كان مستلما أشغال أمير من أغنى الأمراء وأكثرهم إسرافا، ويحكى عن هذا الرجل أنه تورط في اختلاس أموال مولاه، حتى اغتنى واقتنى أملاكا وبنى دورا فاشتكى منه أولاد مولاه لأبيهم، وقالوا له: إن عبد الله نهبك، والناس كلهم يلوموننا؛ لأننا أبقيناه عندنا كل هذه المدة. فقال لهم: إن هذا الرجل كان جائعا فشبع الآن، فإذا عزلناه وأتينا بإنسان آخر يكون جائعا، فيضطر أن ينهب لكي يشبع؛ فخير لنا أن نبقي الشبعان من أن نستخدم رجلا جوعان.
وكان عبد الله هذا على ما يطلب من اتساع الذمة، فساره غنطوس واتفق معه على قسمة السمسرة مناصفة، وكان الأمير قد فوض إليه عقد سلفة بألفي ليرة، فجاءه في المساء بعد العشاء، وجعل يشكو من ارتفاع الفائدة وأن المداينين ماسكون السكين ليذبحوا ذبحا، فلا يعطون المائة بأقل من خمسة وعشرين في السنة، وبعد كل جهد أنزلهم إلى اثنين وعشرين.
وكان الأمير أكولا يأكل دجاجة أو دجاجتين على عشائه، ومتى شبع اتكأ على مسند إلى أن ينام، فيقلب إلى فراشه قلبا، وينزل دمه إلى معدته، فلا يبقى منه في رأسه ما يكفي لتوليد الأفكار أو لتشغيل العقل، فقال لعبد الله: وما رأيك؟ ولا أظن أن أحدا يدينا بأقل من ذلك في هذه الضيقة. فقال عبد الله: إنني اهتديت إلى طريقة أخرى لأخذ المال المطلوب من غير أن نخسر خسارة تذكر، وهي أن الأملاك التي تحت قناطر زبيدة لا يبلغ إيرادها مائة ليرة في السنة، ويمكننا أن نبيعها بألفي ليرة وفائدة الألفي ليرة 440 ليرة على الأقل، فإذا بعناها نكون قد وفرنا 340 ليرة في السنة، وعندي سمسار يمكنه أن يبيعها لنا بهذا الثمن إذا أعطيناه سمسرته.
ففتح الأمير عينيه وقال له: أعد لي ما قلته ثانية. فكرر له الكلام الأول بالتأني، فقال: فهمت فهمت، نبيع العلقة التي تحت القناطر بألفي ليرة هي والمطحنة، طيب بعت، اكتب الحجة حتى أمضيها لك.
وفي أقل من خمسة أيام اشترى غنطوس للخواجه نقولا والخواجه مارون أملاكا بنحو عشرة آلاف ليرة، وهي تساوي عشرين أو ثلاثين ألف ليرة، ودرى غيرهما من التجار بذلك فجعلوا يتسابقون إلى مشترى الأملاك، وهي من جنى الشهابيين؛ لأنهم هم استخدموا الفلاحين لنقب الأرض وحرثها وغرسها، ولكن الذين تعبوا على إنشائها ماتوا وأورثوها أناسا لم يتعبوا بها، فسهل عليهم بيعها، وهكذا انتقل جانب كبير من أملاكهم إلى تجار بيروت، ولقد أحسنوا فيما فعلوا من بيع الأملاك بدل استدانة الأموال ورهنها؛ لأنهم لو استدانوا ورهنوا أملاكهم لتضاعف الدين في ثلاث سنوات، فالذين أشاروا عليهم بالبيع لم يضروهم، ولكن جاءهم الضرر من جهة أخرى، وهي أن كثيرين منهم رأوا نجاح التجار ومكاسبهم الكثيرة، فسولت لهم النفس أن يبيعوا أملاكهم ويتجروا بثمنها، وفاتهم أن التاجر يمارس التجارة ولدا ويربى فيها من صغره حتى يتمرن عليها ويعرف أساليبها وأسرارها، وبغير ذلك تكون التجارة خاسرة، فلم يمض عليهم وقت طويل حتى خسروا كل الأموال التي وضعوها في التجارة، وهذا شأن كل من يستسهل الأعمال ويتعاطاها قبلما يتمرن عليها.
الفصل الثاني والعشرون
المذاكرات السياسية
اجتمع مجلس الوزراء في بلاد الإنكليز للنظر فيما سيطرح على البارلمنت من المسائل، ومنها مسألة عن جبل لبنان والفتنة التي اتقدت نارها فيه، فقال وزير المستعمرات: هذا هو الأمر الذي كنت أخشاه من حين شرعت الشركة الفرنسوية في إنشاء سكة المركبات من بيروت إلى دمشق، فقد أخذت الآن تقول إن لها مصالح مالية في سورية لا يمكنها الإغضاء عنها، وإنه لا بد لها من إرسال جنودها لحماية مصالحها هناك.
فقال وزير المالية: إلى أين وصلوا في إنشاء ذلك الطريق؟ قال ذلك موجها خطابه إلى ناظر الخارجية.
نامعلوم صفحہ