الترجمان :
لم أر إلا قليلين منهم والباقون لا يزالون يناوشون خصومهم ويدافعون عن حريمهم، ولا بد أن يبلغ عدد القتلى والجرحى مبلغا كبيرا؛ لأن القلوب ملآنة والناس لا يعرفون نظام الحروب.
ودد السر هنري أن يذهب ويختلط بجموع الهاربين ليفتش عن الأميرة سلمى، ولكنه كان يجهل كل طرق الاستدلال عليها، وخاف أن يسأل الترجمان كما يخاف من يحاول منكرا، ويرى العيون رقيبة عليه، ثم لام نفسه؛ لأنه فكر بأمر خاص وقتما يجب عليه أن يهتم إلا بالأمر العام وبالبلية الكبرى التي تشتمل ألوفا مثل الأميرة سلمى، وقد تكون هي أسعد حالا منهم كلهم، فجلس مشرد الأفكار ينظر إلى السقف مرة وإلى الأرض أخرى.
وسار الترجمان إلى الدار التي يجتمع فيها المرسلون الأميركيون ليستشيرهم في الأمر، وهو عازم أن يذهب بعد ذلك ويرى قنصل فرنسا وقنصل روسيا، ثم يعود ويخبر السر هنري بما وقف عليه.
الفصل السابع عشر
واقعة الساحل
لما كان السر هنري واقفا على سطح القنصلية يرى الدخان يتصاعد عن سفح لبنان من قراه المنتشرة كالحبب على وجه الماء أو كالدراري في كبد السماء؛ كان رجال الساحل قد أحبوا الليل بالاستعداد لمقابلة الأعداء، وانقسموا فريقين: فريقا تولى حماية النساء والأولاد، والذهاب بهم إلى مدينة بيروت مع ما خف حمله وغلا ثمنه من الأمتعة؛ وفريقا تسلح وودع أهله وأقاربه وداعا قد لا يعقبه لقاء، فكنت ترى هنا طفلا متعلقا بثياب أبيه، وهو يقول له: كيف تتركنا يا أبت؟! ومن يبقى مع أمي وأخواتي؟! وأبوه يرفعه بيديه ويقبله، ثم يسلمه إلى أمه ويوصيها به، وهناك امرأة تربط زنار الفشك «الخرطوش» على وسط زوجها، وتناوله بندقيته ويطقانه وهي تنظر إلى وجهه تارة وإلى أطفالها أخرى ، وترفع قلبها إلى الله وقديسيه ليردوا لها زوجها سالما، وهنالك رجلا يودع ابن عمه ويقول له: أودعك يا أخي المرأة والأولاد. فيجيبه ذاك: بأمان الله، كن مستريح البال فهم مثل أولادي وأعز. وأكثر الأولاد نيام يوقظهم أمهاتهم فيفركون عيونهم ثم ينامون، والنساء الجبارات يحملن جرار الماء ليجرين وراء الرجال، والجمال باركة تهدر والناس يحملون عليها أمتعتهم، وهم يتآمرون فيما يجب أخذه وما يجب تركه، والمكارون يسبون ويشتمون وقد علت الجلبة واختلط الحابل بالنابل، ووقف العجائز بعضهن يشير بما يجب عمله وينبئ بحسن المصير، وبعضهن يضرع إلى السيدة ومار إلياس، ومار أنطونيوس، وكانت ليلة صفا أديمها وأغنت دراريها عن بدرها، فأشرقت تقابل بين توحش الناس وأنس الوحوش.
ولما طلع الفجر ركب الأمراء وهم بالعدة الكاملة، مع كل واحد منهم سيف وقربينة وطبنجتان، ومشى الرجال معهم ومع كل منهم بندقية ويطقان أو بالة وطبنجتان أو فردان، وسار حملة البيارق في مقدمة الجمع وهم ينشدون الأناشيد الحماسية، ومشوا فرقا فرقا إلى ظهور الوادي وبعبدا ومترسوا هناك، وأشرقت الشمس حينئذ وصبت أشعتها عليهم فكادت تعمي أبصارهم، وقبل أن يتموا إقامة المتاريس، أقبل الدروز عليهم براياتهم البيضاء وأصلوهم نارا حامية، ومرت ساعتان والحرب سجال بين الفريقين، لكن الدروز كانوا أكثر عددا وأحكم انتظاما وأطوع لقوادهم، فأقام فريق منهم يناوش النصارى، ودار فريق من ورائهم، وكاد يقطع خط الرجعة عليهم، ويئس النصارى من الفوز فجعلوا يرتدون القهقرى، وكلما وصلوا إلى مكان تسهل المترسة فيه وقفوا، وأطلقوا بنادقهم على أعدائهم، حتى إذا لم يستطيعوا قهرهم أخروهم عن بلوغ قراهم إلى أن تخرج عيالهم منها، وتصل إلى بيروت.
ودار الحديث التالي بين اثنين من الدروز:
حامد :
نامعلوم صفحہ