خطرت هذه الخواطر على بال السر هنري، وناجى نفسه بها وهو ماسك القلم وعازم على الكتابة لأمه، ونظر إلى ساعة أمامه، وقال: حسبي من أحلام الصبا. وأنغض رأسه مسرعا كأنه يجزر ذبابا حط عليه، وغرضه نزع هذه الأفكار من باله، وشرع في الكتابة، فملأ صفحات كثيرة وصف فيها كل ما لقيه في ذهابه إلى الشويفات ورجوعه منها.
الفصل الثامن
الاجتماع الثاني
عاد وكلاء الدولة والعلماء إلى الاجتماع في دار رشيد أفندي، وكلهم متشوف إلى الاطلاع على ما فعلته اللجنة التنفيذية التي شكلت لإجراء ما أقروا عليه في اجتماعهم السابق، وعلى ما ورد عليها من أشياعهم في سورية، فقرئ كتاب وارد من دمشق مؤداه أن سكانها على أتم الوفاق والوئام، وأنه يتعذر إيقاظ الفتنة فيها، لا سيما وأن أميرا من نزلائها لا يستحل خفر ذمة أحد بوجه من الوجوه، ولا يصدق أن ما طلب منه يعود بالنفع على أحد، وأعوانه أشداء يفعلون كل ما يأمرهم، فيستطيع أن يحمي بهم المدينة كلها.
ولما قرئ هذا الكتاب ضحك أحد المأمورين، وقال: إن كانت كل الكتب التي وردتنا على هذا النسق، فلا فائدة من قراءتها غير التضليل، فإن الأمير هو الذي أشار على فرنسا باحتلال سورية وأرشدها إلى السبيل المؤدي إلى ذلك، فوعدته بجعله أميرا عليها.
فناقضه مأمور آخر، وكثر الحجاج واللجاج بين الطرفين، إلى أن تصدى لهما أحد الحضور وأطلعهما على كتابة معه من سفارة باريس، فنظروا فيها، ثم نظر بعضهم إلى بعض وصمتوا.
وقرئ كتاب وارد من بيروت وكله أمل وتأكيد وتفاؤل بنيل المراد، فقال أحد العلماء: أوصوهم أن لا يسرفوا. ثم قرئ كتاب وارد من لبنان يشكو كاتبه فيه من أحد المأمورين ويقول: إننا نظنه جاسوسا. وطلب إبعاده، فكلف أحد الحضور بالسعي في نقله إلى ولاية أخرى.
ودار الكلام على الخطة التي يراد اتباعها في كل أنحاء الولاية بناء على الكتاب المسهب المرسل من سفارة لندن، ومدار هذه الخطة إثارة الرأي العام الأوروبي بأعمال تستفز الأوروبيين إلى «التداخل»، ولا خوف من فوز المعتدى عليهم؛ لأن دولة عظيمة ستمنعهم من أن يعضدوا بعضهم بعضا ولا يتسع لها مجال التداخل؛ لأن الدولة المناظرة لها توقفها عند حدها، وتحبط مساعيها وتمنعها من ازدراد اللقمة التي اختطفتها؛ فتحصل الغاية المطلوبة من غير ضرر كبير.
وكان بين الحضور رجل أشيب تدل ملامح وجهه على أنه عرك الدهر، وذاق ما فيه من خل وخمر، وكان صامتا لا يتكلم، ولكن وجهه يدل على أنه كان يتتبع المتكلمين ويزن كل كلمة، فلما رأى أنهم فرغوا من الكلام، التفت إلى رئيس المجلس، وقال: لقد علمتنا التجارب أن العامة لا تقف عند حد محدود إذا أطلق لها العنان، والذي أخشاه هو أن النتيجة لا تكون حسب التقدير، فلو نلنا بغيتنا وافتديناها برجل أو رجلين أو عشرة أو مائة، لهان الأمر، وقلنا «ويل أهون من ويلين»، ولكنني أخاف أن نطلق العنان للغوغاء فيسرفوا في القتال والتنكيل، فتفقد البلاد جانبا كبيرا من سكانها الذين عليهم اعتمادها في الصناعة والتجارة، ويتسع المجال للتداخل الأوروبي فوق ما نريد، فمهما بالغنا في التحذير لكيلا يسرفوا لا نوفي الأمر حقه، ولا بد لنا من انتداب أناس يعول عليهم لكي يديروا هذه الحركة ضمن حدودها المعقولة. فوافقوه على رأيه وانتدبوا ثلاثة أرسلوهم إلى بلاد الشام لهذه الغاية. •••
في الليلة التي اجتمع فيها وكلاء الدولة في الأستانة للنظر في أمر يمكنهم من إبدال الحالة الحاضرة بأصلح منها؛ اجتمع ثلاثة من المرابين في بيت الخواجه بخور بدمشق، والبيت في حي اليهود يوصل إليه بزقاق ضيق لا يسع إلا اثنين يمشيان معا، وكذلك باب البيت ضيق واطئ يضطر الداخل منه أن يحني رأسه حين دخوله، ولكن البيت واسع رحب، في داره فسقية كبيرة يتدفق الماء منها، والأرض حولها مرصوفة بالرخام المجزع، وفيها دوائر غرست فيها أشجار الليمون والريحان وأمامها ديوان عضائده من الرخام الناصع البياض، وأبواب الغرف التي حوله يحيط بها قوائم من الرخام المنقوش نقشا بديعا يمثل بعضه شرفات لها أساطين وحنايا مفرغة.
نامعلوم صفحہ