فلما وصل بكر هذا إلى مدينة طوس، حيث كان الرشيد مريضا، بلغ الرشيد قدومه فدعا به إليه وسأله: «ما جاء بك؟» فقال: «بعثني مولاي الأمين.» فسأله: «هل معك كتاب؟» فقال: «لا.» فلم يصدقه لعلمه بتكتمهم وأنهم شديدو الرغبة في موته؛ فأمر أن يفتشوا ما معه فلم يصيبوا شيئا، فلم يقتنع فأمر بضربه لعله يعترف، فضربوه ضربا مبرحا حتى خاف الموت، فقال للفضل: «عندي أنباء مهمة فاتركوني لأفضي بها إليكم.» ولكن الرشيد أمر بقتله، ثم اتفق لحسن حظ بكر أن أغمي على الرشيد فاشتغل الناس به، وما لبث أن مات فبعث الفضل إلى بكر بمن أخبره بموت الرشيد وسأله عن الكتب التي معه من الأمين فدفعها إليه، وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع وأخذ البيعة على الناس لهما، وكان المأمون يومئذ بمرو؛ وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر، وأن يعمل هو ومن معه برأي الفضل؛ وكتاب إلى الفضل يأمره بالمحافظة على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك، وأقر كل من كان هناك على عمله. فلما قرءوا الكتب تشاوروا مع القواد فيما يفعلون بالعهود التي عليهم للمأمون في بغداد؛ فكان من رأي الفضل أن يلحقوا بالأمين وقال: «لا أترك ملكا حاضرا لآخر ما أدري ما يكون من أمره.» وأمر الناس بالرحيل إلى بغداد، ولن يلبثوا غير أيام حتى يصلوا إلينا وقد خلعوا المأمون وما خلعوه إلا لأن أمه فارسية وهم عصبة يزعمون أنهم ينصرون العرب، وما ينصرون إلا مطامعهم، وسيعلمون ما ينالهم من أخواله.» قال ذلك وقد تعاظم غضبه فازداد سلمان تهيبا من منظره رغم طول صحبته وما ألفه من أحواله، وظل مطرقا لا يجرؤ على النظر إليه مخافة غضبه، ثم أحب أن يكلمه فرآه يتحفز للنهوض ويقول: «لا بأس على ابن أختنا؛ فهو في خراسان بين أخواله، وفيهم الفضل بن سهل.»
ونهض بهزاد فنهض سلمان معه وقال: «ما الذي نفعله الآن يا مولاي؟»
فأطرق وهو يحك جبينه بسبابته وإبهامه ثم قال: «لا بد من ذهابي لأمر خطر لي لا يحسن تأجيله.»
فقال سلمان: «وهل أذهب معك؟»
قال: «كلا، بل أرى الذهاب وحدي لسبب ستعلمه!»
فقال وهو يهز رأسه إعجابا واستغرابا: «لقد أدهشتني بما تكتمه وما تظهره كأنك تستخدم الجان !»
قال: «لم أفعل شيئا غريبا .» وأخذ يصلح قلنسوته ويعدل بند سيفه استعدادا للمسير، فابتدره سلمان قائلا: «إذا كنت لا ترى حاجة إلي فإني أذهب لإتمام مهمتي التي بدأتها في غروب اليوم، ولولا تعجلي لاطلاعي على خبر الرشيد لأتممتها قبل مجيئي ولو علمت أنك تعلم الغيب و...»
فقطع بهزاد كلامه قائلا: «لا دخل للغيب فيما تراه، وستعلم أنه طبيعي، ولكنني تعودت ألا أقول شيئا قبل التثبت منه. وإنما يقدم على كثرة الكلام أهل الطيش فيجعجعون ويطنطنون ثم لا يأتون غير الكلام، وعندي أن إذاعة ما ينويه المرء من الأعمال يذهب بالعزم على إتمامه. وما أجمل ما قيل: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».»
وكان سلمان يصغي إلى كلامه، فلما فرغ قال: «إنها عظة بالغة؛ ولذلك فإني ذاهب الآن لقضاء المهمة التي بدأتها، ومتى انتهت أطلعتك عليها، وأرجو أن تحسن في عينيك وألا تكون قد سبقتني إليها!»
فقال الطبيب: «اذهب في حراسة الله، وسنلتقي هنا غدا، وإذا لم آت فلا تستبطئني.» قال ذلك وترك سلمان ومشى نحو القاعة التي ترك القوم فيها. •••
نامعلوم صفحہ