امید اور یوٹوپیا
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
اصناف
تقابلا للمرة الأولى في إحدى قاعات البحث التي كان يقيمها فيلسوف الحياة جورج زيميل في برلين، ثم كانت إقامتهما ورحلاتهما معا من عام 1912 حتى عام 1914م في هايدلبرج، واشتراكهما في الحلقات الدراسية التي أقامها ماكس فيبر في هذه المدينة الأخيرة. وقد روى بلوخ أنهما كانا على اتفاق تام في ذلك الوقت، وأنهما حتى عندما كانا يلتقيان بعد أسابيع طويلة كانا يستأنفان الحوار وكأنه لم ينقطع، وكان لا بد في هذه المرحلة من أن يحددا - على حد تعبيره - منطقة خضراء تبين الفروق بينهما حتى لا يتصور الناس أنهما يتكلمان بفم واحد.
وقد جمعهما تأثرهما الشديد «بظاهريات الروح» لهيجل واتفاقهما في فهمها فهما ثوريا، وخاصة في تناولها للموضوعات الأساسية التي تم الإشارة إليها سلفا وهي «الذات - الموضوع - التاريخ». كانت هذه المشكلات حاضرة في ذهن بلوخ عندما بدأ في كتابة مؤلفاته الأولى وهي «روح اليوتوبيا» عام 1918م، وكتابه توماس مونتسر عام 1921م، كما أن هذه الموضوعات نفسها شغلت لوكاتش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» عام 1923م؛ مما يدل على أنهما انطلقا من نفس المشكلات المعرفية والنظرية، وإن كان الاختلاف على البعد اليوتوبي قد فرق بينهما بعد ذلك. فقد ظل الصديقان على وفاق حتى اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى فتوجه لوكاتش إلى المجر والتحق بعد الحرب بالحزب الشيوعي المجري وعمل منظرا للماركسية طوال العشرينيات، بينما توجه بلوخ إلى سويسرا، وعلى العكس من لوكاتش، لم يلتحق بالحزب الشيوعي الألماني، وقد كان لروسيا عشية الثورة فعل السحر على كل منهما، وعندما استولت النازية على السلطة رحل لوكاتش إلى روسيا، ورحل بلوخ إلى براغ، ومن هنا بدأ المسار الفلسفي للرجلين يزداد تباعدا خاصة عندما قام لوكاتش بتبرير الرعب الذي يمارسه الحزب الشيوعي في بسط هيمنته، لقناعته أن الرعب والقهر إجراءان ضروريان لإقامة المجتمع الاشتراكي، بينما تمسك بلوخ - إلى حد الجنون أحيانا! - بالحق والكرامة الإنسانية والحرية الفردية التي يجب ألا يقهرها أي فكر عقائدي. واحتدمت الخلافات بينهما، وكان من رأي بلوخ أن صديقه لوكاتش لم يفهم فكرته عن اليوتوبيا، كما أنه - أي بلوخ - اختلف معه بشدة حول مفهوم الواقعية في الأدب الذي كان لوكاتش يدافع عنه بشدة لأن مثل هذه الواقعية تفتقر إلى البعد اليوتوبي. وتبلور خلافهما على صفحات الصحف والمجلات الثقافية في شكل معارك حادة حول الحركة التعبيرية التي هاجمها لوكاتش بقسوة ودافع عنها بلوخ حتى النهاية، وشكلت هذه المناظرة الفكرية بينهما في عام 1938م أحد الأحداث الهامة في الفكر والأدب الألماني الحديث.
والتعبيرية حركة أدبية ظهرت في ألمانيا حوالي عام 1906م وامتدت حتى أوائل العشرينيات، وقد نشأت في مجال الرسم ثم امتدت إلى الشعر والقصة والمسرح (وقد كانت الأعمال المسرحية الأولى لبرشت من أهم إنجازاتها) وأطلقت صرختها وفزعها من رعب الحرب، وشوقها إلى عالم إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية. كانت التعبيرية حركة فنية ثائرة، تجمعت تحت لواء الإيمان بإنسانية جديدة، وحاولت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وأن تعصف بكل القيم الزائفة في الحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحل دون وقوعها ولم تقف في وجهها. وكان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى، وكانت التعبيرية هي التعبير الفني عن هذا السخط. أراد الفنان أن يشكل العالم من جديد بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم العلمي والتقني وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
50
لكن سرعان ما اختفت هذه الحركة ولاذ أصحابها بالصمت أو تشتتوا في المهجر أو سقطوا في الحرب العالمية الأولى أو انسحقوا تحت أقدام الطغيان النازي، واختنق صوتها في أوائل الثلاثينيات، خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية، واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية. وكانت النتيجة أن دفنت التعبيرية حية، وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج.
51
أثرت الحركة التعبيرية تأثيرا كبيرا على بلوخ، وانعكس هذا التأثير على كل إنتاجه الفكري، الفلسفي منه والأدبي، فقد أخذ بلوخ من التعبيريين حماسهم وأسلوبهم المتوهج في الكتابة، والتعبير عن الأفكار بلغة الشعر والأسطورة والحكم والأمثال، والاستخدام المفرط للصور المجازية التي تصل إلى حد الغموض في أحيان كثيرة، وهو ما تلمحه بسهولة عين القارئ لمبدأ الأمل؛ إذ كان للنزعة التعبيرية أكبر الأثر على عرض النص الفلسفي من حيث شكل التعبير والأسلوب الزاخر بالرموز والصور الشعرية؛ مما زاد من صعوبة قراءة بلوخ واستخلاص جوهر نسقه الفلسفي. ولعل النزعة الإنسانية للتعبيريين وحلمهم بمجتمع إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية - الذي كان منذ البداية هو الهدف والغاية عند بلوخ - هو ما جذبه إليهم، فظل متمسكا بأفكارهم ومدافعا عنهم، وخاض من أجلهم أكبر معاركه الفكرية مع لوكاتش صديق عمره، حتى بعد أن قضى على هذه الحركة تماما ولزم أصحابها الصمت أو انزووا في المنفى أو السجن أو سكتوا إلى الأبد تحت التراب.
وعلى الرغم من أفول التعبيرية واعتبارها الآن جزءا من تاريخ الأدب، إلا أنها تمثل المرجع الألماني الأول للفن المعاصر، كما أن المعركة الفكرية التي دارت رحاها بين لوكاش وبلوخ حول التعبيرية كانت خلافا حول المعنى التاريخي للنزعة الحديثة أو الحداثة
modernism
بصفة عامة.
نامعلوم صفحہ