امید اور یوٹوپیا
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
اصناف
والواقع أن عملية تبادل السلع لا تظهر في الأصل في حضن التجمعات الطبيعية أو الفطرية، وإنما تظهر حيث تتوقف هذه التجمعات، أي على حدودها وعند النقاط القليلة التي يتم فيها اتصالها بتجمعات أخرى. «والعلاقة الحقيقية بين السلع هي عملية التبادل بينها، وهذه عملية اجتماعية يشترك فيها الأفراد المستقلون بعضهم مع بعض، ولكنهم لا يشتركون فيها إلا باعتبارهم مالكي سلع، ولا وجود لهم إزاء بعضهم بعضا إلا عن طريق سلعهم، وبهذا يظهرون لنا كأنهم ممثلو أو «حملة» عملية التبادل.»
39
هنا تبدأ التجارة القائمة على التبادل، ثم تعود فتنفذ في صميم التجمع البشرى نفسه لتؤثر عليه تأثيرا مدمرا. وفي عملية التبادل البسيطة هذه تنطوي بذور الرأسمالية، وبقية تحليلات ماركس تبين كيف تطور عنها «المال» ومنه «رأس المال» وكيف ساهم الإنسان والوعي الإنساني في هذا التطور وتأثرا به بصورة غيرت علاقة الوعي بالعالم وعلاقة الذات بالموضوع.
ولم يتم التطور السابق بطريقة مستقلة عن الإنسان ووعيه كما سبق القول، فنشاط الوعي قبله وفي بدايته قد يختلف اختلافا كيفيا عنه بعد الوصول إليه أو الدخول فيه. ذلك أن نشاط الوعي قد اقتصر في البداية على خدمة الحياة العينية البسيطة المباشرة. ومع بداية تبادل منتجات العمل بين البشر حدث تغير حاسم في مفهوم المنتج والوعي معا؛ إذ اكتسبت المنتجات «صفة اجتماعية» لم تكن تملكها من قبل وصارت لها «قيمة».
40
وتقوم القيمة بدور «التوسط» في حركة المنتجات عندما تكف عملية التبادل عن كونها مجرد عملية اتفاقية أو عرضية تتم على هامش التجمع البشري، ومن ثم تتعرض للزوال بمجرد نشوئها، ومعنى هذا أنه عندما تصبح التجارة القائمة على التبادل فعلا مستمرا ومتصلا، تصبح القيمة هي اليد الخفية التي تنظم حركة السلع وتبادلها.
41
وتستمر حركة هذا التطور فتبدو للبشر - في ذروة تطور السلعية
42 - وكأنما هي شيء طبيعي ومستقل عنهم، ويقفون في مواجهتها كذوات «عارفة». ويظل خافيا عليهم أن القيمة ليست شيئا «موضوعيا» - أي شيئا متعلقا بالموضوعات نفسها تعلقا طبيعيا - وإنما نشأت نشأة اجتماعية كما تطورت تطورا طبيعيا، وهكذا تقف الذات والموضوع من بعضهما موقف طرفين متقابلين في عملية المعرفة الخالصة. بل إن وعي الذوات أو نشاطهم العقلي والفكري يمكن أن يستقل بنفسه بحيث تنقطع العلاقة المباشرة بين الذوات وبين الموضوعات، وبحيث يقتصر دورها على معرفة الموضوعات معرفة نظرية بحتة دون تغييرها أو التأثير عليها.
ومعنى هذا أن الوعي يمكن أن يستقل بنفسه عن الموضوعات الحية وعن الحياة المباشرة نفسها، وأن يتصور أن معرفته وحدها هي الهدف الأسمى والغاية الأخيرة من الحياة. ويمكن أن نجد البداية الفلسفية لهذا التحول في تحليلات أرسطو في الكتاب الأول من كتابه عن الميتافيزيقا، ففي رأيه أن العلم قد نشأ لأول مرة في مصر حيث وجد الناس الفراغ الكافي لممارسته. والعلم ينصرف إلى المعرفة لذاتها لا لأي غرض أو منفعة عملية أو هدف خارجي عنه. والسبب في ذلك بسيط في نظر أرسطو - وغيره من فلاسفة اليونان - فالمعرفة تحمل هدفها في ذاتها. والمهم في هذا السياق أن الانفصال بين الذات والموضوع (والعكس) قد بدأ مع بداية التطور المادي الاقتصادي الذي أدى إلى عملية التبادل عن طريق السلع والمال، بحيث وقفت «الأنا » الواعية بذاتها في مواجهة الموضوعات، وراحت تتعرف عليها مستعينة بأدواتها العقلانية وتؤثر عليها بفعلها وسلوكها العقلاني أيضا، ومن هنا بدأ الانفصال بين الذات والموضوع، والباطن والظاهر، والفرد والعالم المحيط به (وهو الأمر الذي لم يعرفه مثلا أبطال ملحمتي هوميروس - من حوالي القرن الثاني عشر إلى حوالي القرن التاسع والثامن قبل الميلاد - وذلك قبل القرن السابع ق.م. الذي عرفت فيه الجماعات الإغريقية تبادل السلع وظهور العملة النقدية).
نامعلوم صفحہ