ومن الخطأ أن نظن أن هذه المسألة حديثة لم يعرفها الإنسان إلا حين ألقاها القرن التاسع عشر، وإنما هي مسألة قديمة عرفها الإنسان منذ عصور بعيدة جدا، وقد يستطيع الفلاسفة الذين يدرسون التاريخ ويحللونه أن يستقصوا أصل هذه المسألة، وأن يتتبعوا تطورها منذ فرضها العقل على الإنسان المتحضر فيما يسمونه فجر التاريخ.
وليس من شك في أن الفلاسفة قد فعلوا فدرسوا الحضارة منذ نشأتها، واستقصوا أمر الصراع بين الحرية والعدل في أطوار الرقي الإنساني على اختلافها، ثم انتهوا إلى ما انتهى إليه العالم الآن من هذه الحيرة المتصلة والاختلاط الشديد: فمنهم من آثر الحرية؛ لأنها تحقق كرامة الإنسان، وتتيح له أن يكمل نفسه ويظفر بشخصيته موفورة تامة.
وفريق منهم آثر العدل لأنه يرضي حاجة الإنسان إلى المساواة، ويتيح له حظا من الإنصاف يعصمه من استعلاء القوي على الضعيف، وتحكم الغني في الفقير، وتفوق القادر على العاجز. وفريق آخر حاول أن يلائم بين العدل والحرية، فلم يبلغ من هذه المحاولة شيئا ذا خطر؛ لأن العدل المطلق والحرية المطلقة لا يستطيعان أن يلتقيا إلا إذا قيدت الحرية وقيد العدل، وانتقص كلاهما من أطرافه فشوه خلقه تشويها ما، هنالك يستطيعان أن يلتقيا لقاء لا يخلو من تشويه تتأثر به الحياة الإنسانية نفسها، فتدفعها الحرية إلى العمل والنشاط، ويدفعها حب العدل إلى الاختلاف والاختصام، وتنتهي إلى هذا التطور الذي نشهده الآن كما شهدناه في العصور المختلفة، والذي يبث فيها العداوة والبغضاء ويملؤها شرا ومكرا وكيدا، ثم يدفعها حينا بعد حين إلى حرب من هذه الحروب التي لا تبقي ولا تذر، والتي تزداد على مر الأيام بشاعة ونكرا.
ومن الخطأ كذلك أن نظن أن هذا الصراع بين الحرية والعدل مقصور على بيئة إنسانية دون بيئة، أو على مكان من العالم المتحضر دون مكان، وإنما الواقع الذي نستطيع أن نلاحظه في كل وقت هو أن هذا الصراع قائم في البيئات الإنسانية المثقفة كلها، وفي أجزاء العالم المتحضر كلها أيضا، يقوى ويعنف حيث ترقى الحضارة وتتفوق، ويضعف وتخف وطأته حيث تركد الحضارة وتميل إلى الخمود، ولكنه موجود دائما ومتصل على كل حال.
ويكفي أن ننظر إلى العالم المتحضر الذي نعيش فيه اليوم لنتبين أن الصراع بين الحرية والعدل عنيف إلى أقصى غايات العنف في أوروبا وأمريكا، وأن عنفه في هاتين القارتين أشد منه في القارات الأخرى، وإن كان يختلف قوة وضعفا باختلاف الأمم والشعوب.
وليس المهم أن ندرس هذا الصراع بين العدل والحرية درسا مفصلا مستقصى، فذلك شيء لا سبيل إليه بل لا حاجة إليه الآن، وإنما المهم أن نلاحظ مظاهر هذا الصراع في أوروبا وأمريكا وفي بلاد الشرق الأدنى خاصة، لنتبين إلى أي طريق نحن مسوقون، وإلى أي غاية نحن مدفوعون.
وليس من شك في أن إلغاء المسافات في الزمان والمكان قد جعل شرقنا الأدنى متصلا بأوروبا وأمريكا اتصالا يوميا دقيقا، بحيث لا نستطيع أن نفلت، مهما نحاول ذلك، من التأثر بما يحدث في هاتين القارتين من الأحداث والخطوب، وما يثار فيهما من المصاعب والمشكلات.
ومن المحقق أن الشرق الأدنى لو استؤمر حين أثيرت الحرب العالمية الأولى لآثر العافية، ولتمنى أن يلتزم هذه الحيدة التي تجنبه أخطار الحرب وأهوالها، ولكنه لم يستأمر ولم يكن من الممكن أن يستأمر؛ لأنه كان ميدانا من ميادين الحرب وغرضا من أغراضها، وهو كذلك لم يستأمر حين أثيرت الحرب العالمية الثانية، ولم يكن من الممكن أن يستأمر؛ لأنه كان ميدانا من ميادين الحرب وهدفا من أهدافها، وأكبر الظن أنه لن يستأمر إذا أثيرت حرب عالمية ثالثة؛ لأنه سيكون من أهم ميادين الحرب ومن أعظم أغراضها خطرا.
فينبغي للشرق الأدنى إذن أن يوطن نفسه على أنه جزء من هذا العالم المتحضر الحديث الذي يضطرب أشد الاضطراب بهذا الصراع العنيف المتصل بين الحرية والعدل، متأثر سواء أراد أو لم يرد بهذا الصراع وبما يكون له من أثر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والخير أن يوطن نفسه على ذلك وإن لم يعد له عدته، وأن يقبل عليه مريدا لهذا الإقبال لا مكرها عليه إكراها. ولم يخطئ الشاعر حين قال:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب
نامعلوم صفحہ