ألوان
ألوان
تأليف
طه حسين
الأدب العربي بين أمسه وغده
لست أدري أكان الناس يلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ الناس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية، وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر، ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نذرها إلى الأرض حتى أعاد الناس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم، ولكل سؤال جواب، كما يقول جميل لصاحبته بثينة، ومن أجل هذا أخذ الناس يتنبئون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف، ومن رقي أو انحطاط، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض، أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير.
وقد كذبت الحوادث كثيرا من هذه النبوءات وصدقت منها كثيرا، وانتهى بعض الأدباء الفرنسيين الممتازين إلى أن يجيب عن سؤال من هذه الأسئلة ألقي عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية، بأنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب، وليس هذا الجواب إلا نوعا من أنواع الشك وفنا من فنون التردد الذي يقضي به الاحتياط على من يريد أن تكون أحكامه صائبة غير مسرفة في تجاوز الحق، فليس من سبيل إلى أن ننكر أن للأحداث الجسام والخطوب العظام أثرها البعيد في حياة الناس، ومتى تأثرت حياة الناس فقد تأثرت آدابهم؛ لأن هذه الآداب آخر الأمر ليست إلا تعبيرا عن هذه الحياة وتصويرا لها، فإذا تغير الأصل تغيرت الصورة، وإذا تغير المعنى تغيرت العبارة التي تؤديه.
ولو أن اليونان بلغوا من التعمق ما بلغنا والتمسوا من العلم ما نلتمس، لجاز أن يسأل بعضهم بعضا عما كان يمكن أن تحدثه الحرب الميدية من الأثر في آدابهم، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأنها ستحدث آثارا بعيدة جدا لا في الأدب اليوناني وحده ولكن في أكثر الآداب التي سينتجها الناس على اختلاف العصور وتباين الظروف، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأن هذه الحرب الميدية ستدفع الشعر التمثيلي إلى التطور دفعا عنيفا، وستنتج للإنسانية كلها آيات إيسكولوس وسوفوكل وأوريبيد، وبأنها ستدفع أحاديث القصاص دفعا عنيفا إلى التطور، فتنتج لهم تاريخ هيرودوت، وتنشئ للإنسانية فنا من أجل الفنون الأدبية خطرا وهو فن التاريخ، وتنشئ لليونان أنفسهم نثرهم الفني البديع، وتضع لهم أصول الفلسفة اليونانية الرائعة التي أنتجت سقراط ومن جاء بعده من تلاميذه النابهين، ولو كان اليونان يبحثون عن مثل ما نبحث عنه ويتقصون من الأمر مثل ما نتقصى، لجاز أن يتساءلوا عما سيكون لحرب البيلوبونيز من أثر في حياتهم الأدبية والعقلية، ولكان من الممكن أن يتنبأ المتنبئون بأنها ستنتج لهم فقه التاريخ وفلسفته كما نراهما في كتاب توسوديد، أو ستحول فن التمثيل التراجيدي إلى هذا اللون الفلسفي الذي نراه عند أوريبيد، وستمكن أرستوفان من إنتاج آياته الكوميدية الخالدة، وستحول سفسطة السفسطائيين اليسيرة إلى هذه الفلسفة العميقة التي كان أرستوفان يهزأ بها وبزعيمها سقراط في قصة السحاب، ولكن اليونان لم يكونوا يحبون مثل هذه النبوءات، وإنما كانوا يحبون نبوءات أخرى يسيرة تمس آمالهم وأعمالهم، وكانوا يلتمسون هذه النبوءات كما كان العرب يلتمسونها عند السوانح والبوارح من الطير، وفي آيات أخرى كانوا يذهبون في تفسيرها وتأويلها المذاهب، فإذا احتفلوا بهذه النبوءات سافروا في التماسها سفرا قاصدا أو غير قاصد، فطلبوها عند «أبلون» في «دلف» أو عند غيره من الآلهة في معابدهم تلك التي كانوا يلقون فيها الوحي على الأصفياء من الرجال والنساء، فأما مستقبل الأدب ومصير الفن فأشياء لم يكونوا يحفلون بها ولا يفكرون فيها، وحسبهم أن يستمتعوا بما ينتج الأدباء لهم من آيات الشعر والنثر، وبما ينتج أصحاب الفن لهم من روائع التصاوير والتماثيل والبناء.
والشيء الذي لا شك فيه أن الحرب الميدية صدمت الشرق الآسيوي ببلاد اليونان، وأن هذه الصدمة العنيفة المتصلة قد أثارت في عقول اليونان وقلوبهم وأذواقهم شررا أذكى نارهم العقلية المقدسة، ودفعها إلى التوهج الذي ملأ الأرض علما ونورا، وأن حرب البيلوبونيز صدمت اليونان بأنفسهم أولا وبأقطار أوروبية أخرى ثانيا، فكشفت لهم عن ذوات أنفسهم وأظهرتهم من خلالها على ذات النفس الإنسانية أو على بعض النواحي من ذات النفس الإنسانية فأحسوا وشعروا وفكروا، كما لم يكونوا يشعرون ويحسون ويفكرون، ثم صوروا وعبروا، كما لم يكونوا يصورون ويعبرون، وتستطيع أن تقول مثل هذا بالقياس إلى حروب الإسكندر، ثم بالقياس إلى ما كان بين خلفائه من الحروب، ثم بالقياس إلى حروب الرومانيين في إيطاليا وفي غير إيطاليا من أقطار الشرق والغرب، كل هذه الحروب أثرت في الآداب القديمة تأثيرا عميقا، وأنتجت للإنسانية آيات أدبية خالدة ما نزال نستمتع بها إلى الآن، وستستمتع الإنسانية بها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأي رمز لذلك أبلغ من أن الإلياذة والأوديسا إنما هما نتيجتان لحرب لا يكاد التاريخ يعرف من أمرها شيئا، وهي حرب طروادة.
ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى أدبنا العربي القديم، فلو تكلف العرب المعاصرون لظهور الإسلام مثل ما نتكلف من البحث والتفكير والتعمق لسألوا أنفسهم عما يمكن أن يكون لظهور الإسلام وما استتبعه من حرب داخل البلاد العربية، ومن فتوح خارج هذه البلاد من التأثير في حياة الأدب العربي، ولكان من الممكن أن يتنبأ الأذكياء من شباب قريش وشيوخها بأن هذا كله سيذهب بالشعر العربي مذاهب لم تخطر لهم على بال، وسينشئ لهم فنونا من النثر مختلفة متنوعة من العلوم والآداب، ولكن شيوخ قريش وشبابها لم يكونوا يفكرون في شيء من هذا ولا يقفون عنده، ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات، وإنما كانوا كاليونان والرومان يأخذون الأشياء من قريب فيستمتعون بما تقدم الحياة إليهم من خير، ويشقون بما تقدم إليهم من شر، فإذا أبعدوا في التماس الغيب أسرفوا في الإبعاد فالتمسوا الغيب عند السوانح والبوارح من الطير، وعند الكهنة ومن يتنزل عليهم من الشياطين، وعند الأنبياء وما يلقى إليهم من وحي وما يهيأ لهم من معجزات، ثم هم كانوا كاليونان والرومان لا يلتمسون الغيب بالقياس إلى حياة العقل والقلب، وإنما يلتمسونه بالقياس إلى حياة الأجسام في الدنيا وإلى حياة الأرواح في الآخرة، ومع ذلك فليس من شك في أن توحيد الأمة العربية بظهور الإسلام قد أنشأ لها أدبا واحدا، ووجه هذا الأدب توجيها جديدا، وليس من شك في أن اصطدام العرب بغيرهم من الأمم قد أذكى في نفوسهم، وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم، فامتلأت الأرض معرفة ونورا، بفضل هذا الاصطدام، وما نشأ عنه من الاختلاط والامتزاج، ومن معرفة العرب لغيرهم من الأمم ومعرفتهم لأنفسهم، ومن تعارف هذه الأمم فيما بينها وتعاونها راضية أو كارهة على ما كانت مضطرة أن تتعاون عليه من شئون الحياة.
نامعلوم صفحہ